الأب يوسف جزراوي: الجائزة مسؤولية ثقيلة تحفزني على تقديم الأفضل في مضمار الأدب


هذه هي المرة الأولى التي اتصل بها بأبي الكاهن يوسف جزراوي بغية إجراء حوار معه على الورق، كانت اتصالاتي به تتم من أجل الصلاة وطلب المشورة، أما الآن فقد أوقعته في بحيرة أسئلتي الكثيرة، وطلبت منه السباحة، فإذا به يصل الى شط الأمان بأجوبة أقل ما يقال عنها انها رائعة، واليكم ما قال:

 أخبرنا من هو الأب يوسف جزراوي؟
هو إنسانٌ كواحد من الناس، يسعى إليه البشر  لقضاء حوائجهم وفض منازعاتهم الحياتيّة وطلب النصيحة والارشاد أو قاصدين خدمة ما.  يؤمن أنّ رسالة الكاهن العصري لا تتحجم داخل جدران الكنيسة، بل على الكاهن أنْ يخرج من صومعته لخدمة الآخرين، وأنّ رسالته لا تقتصر على منح الأسرار الكنسيّة وإقامة الذبيحة الإلهيّة والصلاة الطقسيّة وحسب، بل برفع سقف الوعي لدى الإنسان، عَبرَ أنشطةٍ روحيّة وفعاليات ثقافيّة وتقديم المحاضرات الدينيّة والإجتماعيّة. خدمته الكهنوتيّة لا يريدها وظيفة أو نشاطات نمطيّة مُستهلكة،  أما مشروعه  الإنساني فلا يبتغيه واجبًا،  بل رسالة حُبّ.
الكاهن الفعال  حسب تصوره، هو الذي يقوى على تأسيس كوادر خدمة، يحلّق بها  كحوّامات  تسعف المنكوبين بزلازل الخطيئة.
جُبل من تراب العراق. أطلق أوّل صرخة وبسمة للحياة في عروس الشرق بغداد  في 19/3/1978 من أبوين فاضلين هما المرحوم نبيل جزراوي وعقيلته السيّدة سهيلة جميل يوسف امد الله بحياتها، اكتشف دعوته الكهنوتيّة وهو في السادسة عشرة من عمره. تقبّل نعمة الكهنوت صباح يوم الثلاثاء 21/12/2004 . كاهن كنيسة المشرق الآشوريّة في سيدني.
اراد له والده رحمه الله مسلكًا اخرًا،  إذ كان يشجعه على الانخراط في سلك المحاماة، لكنه أصر على الإستجابة  لنداء الرب  الذي جذبه إليه دون استحقاق ليكون خادمًا للنفوس معتليا مذبح المسيح،  ناطقًا بكلمة الحياة البنّاءة. ولا يزال متمسكًا بفرح الرسالة التي دُعي إليها منذ عقدين من الزمن ، قابضًا على قلمه بقناعة مذ أمتشقه عام 1999.
**
كم عدد مؤلفاتك حتى الآن وعن ماذا تدور؟
كتبتُ بسنّ صغيرة  وما زلت، لأن الموهبة ليس لها سنّ معينة، كما العطاء ليس له وقت محدد، ممّا اهلني لأنتج ما يربو على 20 مؤلفًا متنوعًا، البعص منها ترجم إلى الإنكليزيّة والهولنديّة أو طُبع أكثر من طبعة، والبعض الآخر لقي انتشارًا جيدًا، بعد أن شارك في اكثر من  معرضٍ دولي للكتاب.
تدور مؤلفاتي في فلك  التاريخ الكنسيّ وحضارة العراق والروحانيات وقضايا المجتمع وأدب الرحلات. أوّل اصداراتي كان: "ومضات من الحياة"، بغداد 2000، وآخرها "نخيلٌ في بستان الذّاكرة"، بيروت 2016.  طرق قلمي أبوابًا موصدة، وتصدى لموضوعات شائكة وقضايا حائرة، اسعفه  بذلك الأسلوب الشيق والممتع. ولعلّ هذا ما جعلني كاتبًا مقروءًا وكتابًا مطبوعًا.
**
أعلنت عن اصدار ثلاثة كتب هذا العام ما هي؟
"ملحمة كلكامش"، طبعة ثانية، بغداد 2016، منشورات  دار ميزوبوتاميا ،  توزيع دار صفحات -الشام.
"نخيلٌ في بستانِ الذّاكرة"، منشورات دار سطور، بغداد 2016،  توزيع دار الرافدين، بيروت.
"شربل بعيني رسّام الكلمات"، منشورات مؤسسة الغربة الإعلاميّة، سيدني 2016.
والآن لدي كتاب رابع قيد الإنجاز " النورس المغترب وعروس الشرق بغداد"، آمل أن يرى النور في هذا العام إن قيض لي الرب ذلك.
**
شربل بعيني رسّام الكلمات كم أخذ من وقتك؟
ذاك الكتاب العزيز، هو في الأصل مقالات متفرقة جاءت في مناسبات متنوعة، امتدت منذ عام 2011 إلى مطلع عام  2016. اعدتُ صياغتها فتحولت إلى  دراسة رصينة، قدمتها بشكلٍ عفوي وموضوعي وبلغةٍ أدبيّة انيقة. لقد كتبتُ بقناعة ومحبة وعقليّة نقديّة عن شاعرٍ مهجري كبير، شهادتي عنه مجروحة.  اعطيته ما له، وأخذت ما عليه، كما وثّقتُ معظم ما كتبه عنه كبار الشّعراء والأدباء في أستراليا ولبنان والوطن العربي. إنّها دراسة تستحق القراءة،  وشربل بعيني منجزٌ ضخم يستحق الدراسة.
**
هل كنت تعلم أنك ستفوز بجائزة شربل بعيني لعام 2016؟
كلا، لم اكن اتوقع أو اعلم بذلك. أقول هذا، لأنني لا أمد جسور العلاقة  ولا اصافح الآخرين لمنافع شخصيّة، بل اضع حجر الأساس على صخرة المحبة وتربة المجانيّة، لهذا، هالني الأمر وفاجأني لحظة طالعت الخبر السار في مُقدّمة الكتاب.
حقيقةً، إنّها مسؤولية ثقيلة تحفزني على تقديم الأفضل في مضمار الأدب، وهي أيضًا ثقة كبيرة أعتز بها. وهنا يطيب لي أن اتقدم بعميق الشكر ووافر المحبة من معهد الأبجديّة، جبيل – لبنان. وعلى روح المرحوم د. عصام حدّاد الرحمة والسلام.
**
هل تعتقد أن الجالية العربية متخمة بتوزيع الجوائز،  وهل يهمك التكريم؟
إنّني ضد مرض التعميم، انطلاقًا من هذا  أمضي للقول: لقد أنشأت ذاتي على أن استمد قيمتي من موهبتي ونوعية رسالتي، فضلاً عن إيلاء القيمة الحقيقية لذاتي وإيماني بربٍ محب، لانه منجم كلّ الكنوز والنِعَم، وليس من تكريم يغدقه عليَّ هذا وذاك، مع احترامي للجميع. فقيمة الإنسان تنبع من داخله وليس من خارجه أو من مظاهره أو ممتلكاته أو جوائزه.
في هذه الجالية الكريمة، غالبًا ما افتقدنا لـ "مسطرة" التقييم والتكريم.  فلا أنكر  بأنّ هناك من يوزع التكريم  بسخاءٍ منقطع النظير، دون أيّ معيار، سيّما وأنّ البعض  يسعى نحو التكريم، إن لم أقل يلهث وراء الجوائز على نحوٍ غريب!.
في رابطة البيّاتي الشّعريّة ومؤسسة العراقيّة  لدينا  "مسطرة" تعتمدها لجنة مختصة، وحدة قياسها المنجز الثقافي والسّيرة الإبداعيّة والاخلاقيّة للمُكرم، بعيدًا عن المحاباة. بمعنى آخر، هناك تاريخ من الإبداع للمبدع في بلده والمهجر، يجب على المؤسّسات الثقافيّة النظر إليه بنّظّارة الموضوعيّة، بعيدًا عن مراجيح الهوى واحكامًا تتحكم فيها المنافع الذاتيّة والمصالح العامة والمجاملات الشخصيّة أو التقاطعات الثقافيّة. وهذا ما اقدمنا عليه في رابطتنا الفتية.
وقد يعرف العارفون أنّ الأب جزراوي ومعظم من يعمل معهم في رابطة البيّاتي ومؤسسة العراقيّة، لا يستسهلون تكريم الآخرين بشكلٍ عبثي أو مزاجي تغذيه المجاملات، لأنك لو فعلت هذا ستفقد  مصداقيتك، وستغدو  الجائزة الممنوحة أو الشخص المُكرم كلوحةٍ موضوعة في إطارٍ لا يتناسب مع حجمها الحقيقي. ونشكر الله بأننا  كرمنا من يستحق التكريم من قامات أدبيّة وفنيّة وثقافيّة.
**
أنت رئيس رابطة البياتي ماذا تحضر الآن من نشاط؟
شخصيّا اؤمن بفكرة العمل الجماعي، وليس لأحد يستطيع أن ينسب النجاح لذاته  بمعزل عن إبداع الآخرين، لهذا، فإنّ الرابطة  بكلّ اعضائها وبالتعاون مع مؤسسة العراقيّة الإعلاميّة،  تستعد في القادم من الأيام إلى إقامة الاسبوع الثقافي العراقي العربي في سيدني، عقب تحضيرات طويلة امتدت لشهور عديدة. ولعلّ الطبخة اكتملت، فقط تبقى أن نحدد توقيت الوليمة. وبصراحة أودّ القول هنا: لقد عمل جميع المشتغلين  في هذا المشروع الكبير كما في المهرجانات السابقة  بمحبة وزهد وإنكار ذات، كخلايا نحلٍ، خدمة للمشهد الثقافي في الاغتراب الأسترالي، وليس لاجل شهرة  شخصيّة. وهذا منجز لا يحسب للأب جزراوي، بل للرابطة والمؤسسة المذكورتين آنفًا، الذي لم تقوَ عليه حكوماتنا ومؤسّساتنا الرسميّة داخل العراق والوطن العربي في دعم المثقف والمبدع.
وقد لا يختلف المتابعون والمنصفون بأنَ حركة أدبيّة وحراكًا ثقافيًا عراقيًا توهجا في السنوات الأخيرة، أنعشا المشهد الثقافي العربي الاغترابي في سيدني، ومن يتصور عكس ذلك فهو واهم إلى حدٍ كبير.
**
نراك تناجي العراق كثيراً، من أي المدن أنت؟
في الحقيقة أنا بغدادي المولد والملامح وافاخر بذلك، ولأن المُحب يعود دومًا إلى الأماكن التي عايشت حبّه العتيق الكبير، يلملم عن ارصفتها بقايا الذكريات الجميلة، هكذا هي الحال معي، إذ اغسل عيني من رماد الغربة بمناجاة محبوبتي بغداد، عروس الشرق وتاج العواصم. فصورة بغداد عاصمة الثقافة  لا تزال عالقة في ذهني، وارفض  أيّ صورة سواها.
في بغداد  حبل مشيمتي، ومهد طفولتي. كما أن والدي يرقد على رجاء القيامة هناك، تحت تربتها الطاهرة، بل أنه اصبح جزءًا من تراب العراق.
لقد نشأت في بغداد المتنبي، ترعرعتُ في قلبها النابض بالتعدديّة الحضاريّة والدينيّة. قطفتُ من ثمارها الثقافة الواسعة، ورشفتُ من رحيق أديرتها كهنوتًا، وفي مذابح كنائسها أشعلتُ أوّلى شموع كهنوتي، فضلاً عن أنّ الكاهن البغدادي عَبَّ من حلاوة تمر نخيل العراق بلاغة أدبيّة.
لقد غادرتُ العراق مجبرًا بعد أن اكتويتُ بنار الأرهاب في 5/8/2006، وإلى يومنا هذا اتلظى بجمرة الفراق، لأن ساسة العراق يريدون لنا أن نكونَ حميرًا في مزارعهم، وإلّا يمنحون لنا شهادة وفاة في وطننا أو شهادة ميلاد في غربةٍ ابديّة.
بعض الأبنية والازقة في سورية ولبنان واوروبا جعلت شعورًا يخالجني، بانني لم ابتعد كثيرًا عن بغدادي، ممّا خفف عليَّ ضجر الغربة. أما في المنفى الاوزي لم أعدّ على بعد مرمى عصا عن عاصمتي الحبيبة كما في السابق، فأبَيتُ إلّا أن أكون نوح القلم وأيوب الكلمة في سبيل وطنٍ استوطن حبّه قلبي؛ يقبع في ذاكرتي الموجعة ولم يهجرها ابدًا، فجذوة حبّ العراق لم تخبُ في اعماقي، إلى حدٍ ، حين تمر شمس بغداد من نافذة منزلي الاسترالي، اناجي عاصمتي قائلا: بغداد الا زلتي تذكرين من أنا؟. إنّها القلب الذي احمله في اعماقي، والصدر الذي وددت أن ادفن رأسي بين ثناياه، ولان ذلك محال في وضعنا الراهن، تراني علقت صورة بغداد على جدران الروح، وفرشت لها في القلب سريرًا ابديًا.
لقد أشعل رحيلي  عن بغداد عود ثقاب في قلبي، الذي يتلظى لحد اللحظة بنيران الفراق. فكيف لا أناجي عاصمتي ووطني وأنا اتوسد المنفى منذ عقدٍ من الزمن.
**
كيف تلقيت خبر فوزك بجائزة شربل بعيني لعام 2016؟
علاقة الصداقة الصادقة مع الكبير شربل بعيني والثقة المتبادلة بيننا، هما  جائزة  بحد ذاتها، فهو قيمة إنسانيّة وقامة أدبيّة، وهذا أمر مهم أنْ تجد الأديب إنسانًا، يُغرد المحبة والخلق الرفيع في هيكل الكلمة.
ولكن هذا لا يدفعني بأن أنكر، بإنّني ازهو وافاخر بهذه الجائزة العزيزة، لأنها لم تاتِ بشكلّ انتقائي أو بناءً على علاقتي بصاجب الجائزة، بل بشكلٍ مدروس وحيادي لمنجزي الأدبي من قبل لجنتين واحدة في استراليا والاخرى في لبنان، ويسعدني إنّ يكون اسمي أوّل الأسماء التي وافقت عليها لجنة التكريم في بيروت.  فضلاً  عن أنها تحمل أسم  كبير، هو عميد الأدب العربي في أستراليا. ولا اخفيك سرًا: كنتُ انتظر الجائزة  من بغداد، فجاءتني من باريس العرب- بيروت.
فألف شكر لكم ولبلدكم السَبّاق.
**
كلمتك الأخيرة لهذه الجالية
وجودنا في هذه القارة الجميلة هو نعمة عظيمة ورسالة كبرى في الوقت ذاته.
شخصيًا، احزن كثيرًا حين أرى الآخرين لا يتقدمون إلى الأمام. أستراليا، بلادٌ مباركة، تهدف إلى تطوير الإنسان في كافة المجالات، بغية تحقيق المرء نضجه الإنساني. فارجو من الجميع الإستفادة من الفرص الممنوحة في هذه القارة المعطاءة، وأن يسهم كلّ من موقعه وحسب ظروفه في بناء بلاد الاوقيانوس، التي وفرت لنا ما عجزت عن توفيره بلداننا المنكوبة، إيمانًا مني أنّ الإنسان خلق ليكمل رائعة الله (الكون)، وليترك في هذا الوجود الجميل اثرًا بليغًا وذكرًا حسنًا، وهنا يكمن مفهوم الخلود الحياتي.
لذا أقول لنفسي وللجميع: خاطروا بأن تكونوا متميزين، مختلفين، ساعين إلى الفرادة والخصوصيّة والتميز، لا إلى التكرار والمحاكاة التقليديّة. ولكن تعلموا ان تفعلوا ذلك دون لفت الانتباه. دعوا أناكم الحقيقة تُعبّر عن نفسها. وما الـ ( أنا) الحقيقيّة؟ سوى  ما أنتم عليه وليس ما صنعته منكم الظروف أو ما يطلبه منكم  الاخرون أن تكونوا. فأن تكون أنتَ في هذه الحياة، أمر صعب وشاق، فهذا يعني انك ستعرض نفسك لرياح شديدة، تهب عليك من جميع الاتجاهات، أو قد تكون طعامًا للكثيرين، ولكن طوبى، بل هنيئًا لمن يطعم الجائعين.
ولكن ليتنا لا ننسى أو نتناسى أنّ البشر لا يولدون دومًا يوم تلدهم امهاتهم؛ وانما تدفعهم الحياة إلى ولادة انفسهم بانفسهم ثانية وثالثة، وربّما لمرّات عديدة، واستراليا هي الرحم الذي نخرج منه في ولادة جديدة إلى قيم الإنسان وفضائل الحياة. ويقيني أنّ هكذا ولادات ستؤم الينا بدرب عريض يهدي إلى الطريق السوي؛  هو طريق فسيح يدعى الانسانيّة.
آمل من جاليتنا العزيزة أن تغني الحُبّ غنوة وترنم طقوس الإنسانيّة في صوامع الحياة، لأن إنسانيّة الحُبّ ترى الورود بِلا أشواك، ومن يُحب لا يُسيء ولا يتراجع إلى الوراء، لأن الله في ذاته محبة أبديّة. ولغة المحبة وحدها كفيلة ببناء الإنسان وتقدمه في كلّ زمانٍ ومكان.
 محبتي وشكري لحضرتك أيها الأستاذ الجليل وللجميع.

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق