حوار صبري يوسف حول السَّلام العالمي مع الكاتبة والإعلاميّة اللّبنانيّة لورا مقدسي


                                الكاتبة والإعلاميّة اللّبنانيّة لورا مقدسي 



1ـ ما هي برأيِكِ أهمُّ أسبابِ تراجعِ السَّلامِ العالمي بينَ البشرِ؟

الأسباب كثيرة، من أهمها إخفاق الأمم المتحدة في تحقيق السلام العالمي. والإخفاق ليس مفاجئا خصوصًا أنَّ الأمم المتحدة قامت بشروط وضعها المنتصرون في الحرب العالميّة الثانية، وعلى أسس تحفظ توازن القوى بين الدول إيّاها، رغم أنّ المنظمّة الدوليّة أُنشئت في الأصل لحفظ السلم والأمن الدوليين وتسوية النزاعات، على اختلافها، بطرق سلمية. 

من أسباب تراجع السلام العالمي أيضًا سباق التسلّح بين الدول العظمى، وحاجة هذه الدول إلى ساحات لبيع منتوجها من السلاح الفتّاك، وازدواجية المعايير التي تمارسها الدول الكبرى في حقّ الدول في الدفاع عن النفس وحجب هذا الحقّ عن أخرى. ما يحصل في غزّة خير مثال على هذه الازدواجية. العالم يتفرّج على إبادة جماعيّة ضدّ الشعب الفلسطيني ولا يحرّك ساكنًا، لا بل يسعى إلى تشجيع الآلة الحربية الإسرائيليّة على قتل المزيد من المدنيّين الفلسطينيّين. 


2ـ لماذا ابتعدَ الإنسانُ عَنِ السَّلامِ والوئامِ بينَ بني جنسِهِ، سائراً نحوَ حقولِ الألغامِ الَّتي تنسفُ حيثيَّاتِ السَّلامِ مِن جذورِهِ؟

لم يتغيّر المشهد الكوني كثيرًا. كان الإنسان يستعمل المنجنيق، فصار يستعمل الطائرات والصواريخ والمسيّرات. وهذه تخترق السماء والأرض وتعكّر صفو الحياة وتقتل، وتشرّد وتترك الناس- وغالبيّتهم من المدنيّين الفقراء والمعدمين-  أرامل، ويتامى.  والشعارات التي ترتفع هنا وهناك لتبرير التوّحش والبربريّة وسفك الدماء لا تعيد للمشرّد بيته، ولا للطفل ابتسامته ولا للأمّهات فلذات الأكباد.                        

يقول فيكتور هيجو: نحن نرزح تحت عبء أفكار متوحشة تلوّث أرواحنا، ما يجعلنا نعيش من أجل البقاء، وليس من أجل الحياة".                                                                                 

لا نزال نجهل القوانين التي تحرك عجلة التاريخ، نظرًا لكثرة العوامل التي تؤثر في حركته، لكن الثابت الوحيد والأكيد هو الناس بتطلّعاتهم وطبائعهم المتباينة جدًا.                                                  

مهما يكن من أمر، فإنّنا في أمسِّ الحاجة؛ اليوم؛ لأن نفكّر بطريقة تجعلنا نسعى من أجل الحياة.        


3ـ ما هي أسبابُ انكفاءِ الحسِّ الأخلاقيِّ والمعاييرِ الرَّاقيةِ عندَ الكثيرِ مِنَ البشرِ في الوقتِ الرَّاهنِ؟

ما يحتاجه العالم كي ينهي هذه المأساة البشرية الجاثمة منذ أجيال على الصدور هو البحث عن أفكار جديدة تحرر الذهنية البشرية من قيود الماضي الأليم الذي نشأت عليه، والتي يمكن تلخيصها بثنائيّة: نحن نحن وهم هم.                                                                                 

هذه الثنائيّة تسبّبت بتشققات مخيفة في الضمير البشري، سواء على المستوى الفردي، أو على مستوى الجماعة التي أنتجت عصبيّات قبليّة ومذهبيّة وثقافيّة، إلخ...                                           


4ـ يركّزُ الإنسانُ على العلاقاتِ المادّيّةِ، وغالباً ما تكونُ على حسابِ إنسانيّةِ الإنسانِ، لماذا يتراجعُ الإنسانُ نحوَ الأسوأ في علاقاتِهِ معَ بني جنسِهِ: البشرِ؟!

إنّها من مساوىء الرأسمالية وثقافة الاستهلاك التي تؤدّي بالفرد إلى وضع المصلحة الاقتصادية فوق أيّ اعتبار آخر.

إنَّ المأزق التاريخي  للنظام الرأسمالي ليس في نتائجه الاقتصادية فحسب، بل بتأثيرة الهائل على العلاقات الإنسانيّة وتفكّكها. الرأسماليّة تنظر إلى المجتمع باعتباره مصنعًا يؤمّن استمرارية النظام ويخدم أهدافه. وهي تمارس بذلك القهرين المادي والمعنوي، فيتحوّل العمل من وسيلة عيش إلى قيمة في حدّ ذاته، أي إلى هدف محوري من وجود الإنسان. 

وهكذا نجحت الفلسفة الرأسماليّة في إعادة تشكيل الأنماط والأدوار الاجتماعيّة وانعكاساتها على حياة الفرد اليوميّة، وعلى كيفية تصوره لذاته وللآخرين.


5ـ هناكَ تطوُّرٌ كبيرٌ في تقنياتِ وتكنولوجيا العصرِ، يسيرُ عصرُنا نحوَ فتوحاتٍ كبرى في عالمِ التّقانةِ والتَّحديثِ، لكنَّهُ فقدَ الكثيرَ مِنَ الحميميّاتِ، كيفَ يمكنُ إعادةُ العلاقاتِ الحميمةِ الرَّاقيةِ بينَ البشرِ؟!

كلّما ارتفعت وتيرة الفتوحات التكنولوجيّة الكبرى، خسرَ الإنسان حميميّة العلاقة الإنسانيّة، الوجدانيّة مَعَ الآخر. لا يمكن الحديث عن سلام بين البشر، في الحيّزين الخاص والعام، من دون العناية بتربية جيل مختلف، متميز بأريحية الوجدان، والأخلاق وقيم المحبّة والعدالة والمساواة بين البشر.                     

لا يمكن الاستناد إلى المؤسّسات التربوية وحدها. البيت أهمّ مدرسة تربويّة على الإطلاق، وعلى الوالدين أن يعوا أهميّة أن يزرعوا في ضمائر أولادهم الحب، ولا شيء غير الحبّ. إنّه الأكثر ملاءمة لقدرات الفرد وحاجاته وتطلّعاته. الحبّ ديمومة. أمّا الكراهية والاحتقار والتمييز العنصري والخوف من الآخر المختلف، فحالات طارئة يصنعها مرضى نفسيّون يعانون من إحباط، ومن خسارة كلّ أمل بالحياة.                 

 

6ـ لا يتمُّ تأسيسُ الكثيرِ مِنَ الدُّولِ الشَّرقيّةِ/ العربيّةِ وما يجاورُها على أسسٍ ديمقراطيّةٍ، غالباً ما تجنحُ نحوَ الحروبِ والدَّمارِ، متى ستتعلَّمُ هذهِ الدُّولُ أنَّ بناءَ الدَّولةِ يقومُ على بناءِ المؤسَّساتِ الدِّيمقراطيّةِ وتطبِّقُ هكذا مؤسَّساتٍ؟

هذا سؤال يصلح موضوعًا لبحث علمي. وأستطيع الجزم أنّه صدر الكثير من المؤلّفات التي تعالج هذه المسألة وبلغات عديدة، لكنّي سأوجز هذا النقاش الكبير بسطرين لأقول إنَّ  البعض يتحدّث عن أنَّ الديمقراطية لا تصلح في المنطقة العربية لأنّ ناسها بحاجة على تلبية حاجاتهم من مأكل وملبس قبل التفكير بالديمقراطية. فهذه الأخيرة تحتاج إلى نضج ومستوى متقدّم من الرفاهية والاستقرار الاجتماعي كي تنمو وتزدهر. 

البعض الآخر يرى في هذه المقاربة مغالطة كبرى يستغلّها أصحاب السلطة في الدول العربية لتبرير الاستبداد ومصادرة الحريّات والتعامل مع الفرد العربي على أنه كائن يبحث عن سدّ حاجاته الماديّة أوّلًا.

والحقّ أنَّ الحكّام العرب يحتاجون ليس إلى فهم الحوكمة الرشيدة واعتمادها فحسب،  بل إلى قناعة عميقة ووعي بأنّ استمرارهم في الحكم القبليّ على النحو المعتمد في ممالكهم وقلاعهم ومدنهم - من دون الاستناد إلى دولة القانون والمؤسّسات- سيبقي المنطقة برمتها في غياهب الجهل وظلام العصور الوسطى.


7ـ  جاءَتِ الأديانُ كلُّ الأديانِ، لتقويمِ سلوكِ وأخلاقِ البشرِ، ولإرساءِ أُسُسِ العدالةِ والمساواةِ بينِ البشرِ، لكنْ واقعُ الحالِ نجدُ انشراخاً عميقاً بينَ المذاهبِ عبرَ الدِّينِ الواحدِ، وصراعاتٍ مميتةً بينَ الأديانِ، إلى متى سيبقى هذا الصِّراعُ والتَّناحرُ مفتوحاً بينَ المذاهبِ والأديانِ؟

الأديان مصدر كلِّ مصائبنا. نذبح بعضنا بعضًا، نقتل. نشرّد. نسبي. نحوّل الأرض إلى رماد، والبحر إلى بركة دماء من أجل فكرة عبثيّة تتعلق بالدين وبصراع الثقافات. ثمَّ يقول أتباع الأديان أنَّها جاءت لتهذّب عقول البشر، ويروحون يدافعون عن أنبيائها، وحرّاسها ومخترعيها غير آبهين بأن الدين كان ولا يزال أداة فتّاكة لإشعال الحروب بين المجموعات البشريّة.


8ـ سُمِّيَ القرنُ التّاسعِ عشر بعصرِ القوميّاتِ، نحنُ في بدايةِ القرنِ الحاديِ والعشرينِ، ومانزالُ نتخبّطُ بالحقوقِ القوميّةِ وحقوقِ الأقلِّياتِ، إلى متى سنظلُّ نتصارعُ كأنَّنا في غابةٍ متوحِّشةٍ، لماذا لا نركِّزُ على بناءِ الإنسانِ وتأمينِ حقوقِ المواطنِ القوميّةِ والمذهبيّةِ والدِّينيّةِ بعيداً عَنْ لغةِ العنفِ والعنفِ المضادِّ؟!

إلى أن تنتفي ازدواجيّة المعايير فيما خصّ حقوق الإنسان وحقوق الأقليّات الإثنيّة والثقافيّة والعرقيّة والجنسيّة إلخ... إلى أن نتوّصل إلى بناء عالم واحد، تسوده المساواة والعدالة. التوحّش جزء من حضارتنا البشريّة، نحتاج إلى سنوات مديدة من النقد الذاتي، ونقد أنظمتنا والبنى العميقة في مؤسساتنا السياسية والاجتماعية والثقافيّة والدينيّة السائدة كي نؤنسن حضارتنا والعالم الذي نعيش فيه. 


9. تحاولُ الدُّولُ العظمى أنْ تنشبَ حروباً في الدُّولِ النَّاميةِ كي تصنعَ حروباً، فتعيشَ الدُّولُ المتقدِّمةُ على حسابِ المزيدِ مِنَ التّعاسةِ في الدُّولِ النَّاميةِ، إلى متى ستبقى هذهِ المعادلةُ المخرومةُ قائمةً في أبجدياتِ سياساتِ بعضِ الدُّولِ الكبرى؟ 

تعتبر دول الشرق الأوسط وأفريقيا أمثلة حيّة على الكولونياليّة الجديدة -القديمة، وهناك أبحاث أكاديميّة تدرس وتفنّد نظرية ما بعد الكولونيالية: المفهوم، النشأة، التطوّر، الروّاد والأعلام. 

كم نحتاج في عالمنا العربي إلى فرانز فانون جديد، يتبنّى الأفكار التي تقوم بتشريح الظاهرة الكولونياليّة التي أدّت إلى انقسام العالم انقسامًا ثنائيًّا، والتي يمكن أن توحِّده لو تحرّرت حكومات العالم وشعوبه عن الاستعمار.

يعتبر فانون مرجعيّة بحثية في معالجته لمشكلة الاغتراب الثقافي، وما خلّفه الاستعمار من أمراض نفسيّة حيث خصّص فصلَا كاملًا من كتابيه "معذّبو الأرض" و"بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" لحالات مرضية أوجدتها الظاهرة الاستعمارية في البلدان الفقيرة، المعدمة.

وتحدّث إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" عن تيّار ما بعد الكولونيالية، ورفده بتحليلات جديدة، لتشكّل فيما بعد حقلًا معرفيًّا جديدًا قائمًا على نقد الاستعمار، ولفهم جديد لعلاقة الدول المستعمِرة والمستعمرَة ضمن فضاء تعدّدي يستوعب الثقافات دون الإشارة إلى أيّة ثقافة مركزيّة. 

كشف ادوارد سعيد الآليات التي يمارسها الخطاب الكولونيالي للتغطية على ممارساته، حيث يشير أنَّ هذا الخطاب ظلَّ يركّز على تخلّف الشعوب المستعمَرة وعدم أهليتهم لحكم نفسها. وأشار الى أنَّ كارل ماركس برغم تقدميته ووقوفه مع شعوب العالم الثالث في حربها ضد الاستعمار، إلّا أنّه كان مقتنعًا هو الآخر بعدم أهلية هذه الشعوب على حكم أنفسهم. 

وبالتزامن مع هذا الخطاب الذي يكرس دونيّة الشرق وفوقيّة الغرب يبادر الخطاب الكولونيالي إلى حجب كافة المعلومات المتعلقة بالمكاسب الكبيرة التي يحققها الاستعمار والمتمثلة بنهب الموارد كالمواد الخام. ومن المعلوم أن الظاهرة الاستعمارية الحديثة قامت في الأساس على التنافس على المواد الخام من قبل الدول الرأسمالية الاستعمارية بعد التصنيع السريع المتمثل بالثورة الصناعية والذي أدى الى نضوب المواد الخام ومصادر الطاقة، مما حدا بهذه الدول إلى استعمار الدول التي لم تشهد نموًا صناعيا وظلّت محتفظة بموادها الخام في باطن الأرض.


10. الإنسانُ هو المهمُّ، هو جوهرُ الحياةِ، وهوَ العقلُ المدبِّرُ لقيادةِ الكونِ، مَعَ هذا لا أراهُ مهمَّاً في برامجِ الكثيرِ مِنْ دولِ العالمِ، لماذا لا يتمُّ التَّركيزُ على بناءِ إنسانٍ خيِّرٍ وحكيمٍ ومحبٍّ للسلامِ والعدالةِ وبناءِ الأوطانِ؟

لا تُفرَض السلطة بالبطش وحده. والمتسلّط يُنوِّع في أدواته لبسط سيادته على المستضعفين القابعين في أدنى ترتيب الهرم الاجتماعي. وسواء كان المتسلّط مستعمرا خارجيا أم سلطة شمولية داخلية، فإن العصا تلعب مع الجزرة دورا متبادلا بين إرهاب الجماهير وإخضاعهم معنويا بالعنف الناعم الذي يبدو، أحيانًا، أشد أثرا لكونه يتغلغل في قناعات الإنسان ويحكم لا وعيه.

ويُعتَبر عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو أبرز مَن تناول هذا المفهوم القهري، وعرّفه بالعنف الرمزي الذي يمارس باتفاق خفي بين الجلّاد والضحيّة، عبر علاقات الاتصال التي تجمعهم بأساليبها المختلفة.. وقد رأى بورديو أنَّ المؤسسات التربوية والإعلامية تُمثِّلان الأداة التي تفرض المتسلّط على المقهورين، ممّا يعني إخضاعًا أطول بأساليب هادئة، غير عنيفة.

وتلعب المدرسة في رأي بورديو دورا محوريا في ممارسة هذا القهر، إذ إنها بدلا من خلق القدرة على السؤال والبحث، تقوم بإعادة إنتاج للأجيال التي مورس في حقها عنف السلطة الرمزي، دون أي تجديد في ذلك؛ وبغرض الإبقاء على النظام الاجتماعي في الصورة التي تختارها السلطة، وإبقاء الطبقات الدُّنيا في حالة خضوع مستمرّ للطبقات المُهيمنة.  

أظنّ أنَّ أسلوب التدريس التقليدي المعمول به في العديد من الدول يساهم في تعطيل الطاقات الكامنة لدى الطلّاب، ويستهدف تطويعهم من أجل أن يتأقلموا مع عالم القهر، وهكذا يتمّ إرساء دعائم التخلف في المجتمع.


11. عجباً أرى، كيفَ لا يفهمُ المتصارعونَ والمتحاربونَ أنَّ لا منتصرَ في الحروبِ، حتَّى المنتصرُ هو منتصرٌ على حسابِ جماجمِ الآخرينَ؟ نحنُ بحاجةٍ أنْ ننصرَ قيمَ الخيرِ والعدالةِ ونحقِّقَ الدِّيمقراطيّةَ والمساواةَ للجميعِ مِنْ دونِ هدرِ الدِّماءِ!

صحيح. يجب العمل لإرساء قيم الخير والعدالة والمساواة والديمقراطية، وهذا يتطلّب مجهودًا متواصلًا، من دون تردّد أو تراجع أو توقّف. والبداية تكون في إزالة التخلف في المجتمع، والتخلف ليس سوى فقدان للكرامة والقيمة الإنسانية، بحيث يتحوّل فيه الإنسان إلى شيء ووسيلة.  

إنَّ التخلّف الاجتماعي مرهون بقدر القهر الذي يُلاقيه البشر في مجتمعاتهم، وكلّما زاد القهر زاد التخلف. فكيف يمكن النظر إلى التحليل النفسي للقهر وآلياته، وكيف يمكن إحلال قيم الخير والعدالة والديمقراطية 

والمساواة بدل القهر والتخلف في مجتمعاتنا، هذا هو التحدّي الأكبر. 

12. أبحثُ عَنْ إنسانٍ حكيمٍ، عاقلٍ، جانحٍ نحوَ السَّلامِ، خيِّرٍ يقودُ البلادَ إلى دِفءِ الوئامِ، متى سنرى قائداً بهذهِ الحيثيّاتِ، يقودُ البلادَ إلى أبهى واحاتِ الأمانِ والسَّلامِ؟!

نحتاج إلى أمّ تريزا جديدة تبذل جهودًا بحجم جبال من أجل البشرية.


13. الحيوانُ المفترِسُ يفترسُ الكائناتِ والحيواناتِ الضَّعيفةَ مِنْ بني غيرِ جنسِهِ، مِنْ أجلِ البقاءِ، بينما الإنسانُ، هذا الكائنُ (السَّامي)، يفترسُ بني جنسِهِ ليسَ مِنْ أجلِ البقاءِ، بلْ بسببِ البطرِ والنُّزوعِ الحيوانيِّ، كأنَّهُ ينافسُ الحيوانَ المفترسَ افتراساً، إلى متى سيفترسُ الإنسانُ بني جنسِهِ؟!

"الخير في الناس مصنوع إذا جبروا، والشرّ في الناس لا يفنى وإن قبروا"، كتب جبران خليل حبران في مطلع قصيدته "المواكب"، ليؤكّد على حقيقة مفادها أنَّ الأصل في الإنسان هو الشرّ وليس الخير إلّا استثناء.

ويذهب جان جاك روسو إلى اعتبار أنَّ لا شرّ في الكون إلّا ما يفعله الإنسان، ليعطي بذلك دليلًا قويًا على أنَّ كلَّ الشرور التي توجد في هذا الكون مصدرها الإنسان .

إن ما يدفع الإنسان نحو الشر أكبر من دافعه نحو الخير. وإتيانه للخير ليس سوى من أجل مصلحته. هكذا يتضح أنَّ البشر لا يبالون بالخير، ما يهمّهم في الحقيقة هو مصالحهم، ومن أجل ذلك ينافقون ويسرقون ويظلمون ويقتلون ويغتصبون ويحرقون ويدمّرون ويذلّون.

الفعل الحقيقيّ اللائق بإنسانيّتنا هو قرارنا الواعي بنبذ ميولنا الأنانيّة ومدّ جسور الخير نحو الآخر. ولعلّ أبيات الفيلسوف محيي الدين بن عربي تختزل هذا القرار الذي أتحدّث عنه:  

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي

إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ

فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ

وبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ

وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــرآن

أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ

ركـائـبهُ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني.


14. الإنسانُ حيوانٌ اجتماعيٌّ بالطَّبعِ، أنا لا أرى فيهِ هذهِ الرُّوحَ الاجتماعيّةَ، بَلْ أرى فيهِ جنوحاً نحوَ البوهيميّةِ والغرائزيّةِ، كيفَ يمكنُ أنْ ننقِّيَ هذا النُّزوعَ البوهيميَّ وننمِّيَ فيهِ إنسانيّةَ الإنسانِ؟!


يحتاج الإنسان إلى قرار واضح وبذل التضحيات الجسام من أجل السيطرة على نزواته الشريرة، وتغليب الخير القليل الذي فيه. وهذا، لعمري، من اختصاص قلّة من المتنوّيرين، الأذكياء حقًّا.  

أن تكون إنسانًا يعني أن تملك حساسية مفرطة ليس نحو المذهب واللون أو العرق إنما نحو الإنسان والكائنات الضعيفة على الكوكب. فثقافة الإنسانية لا تأتي من فراغ، هي جزء من حضارة الشعوب. وهذه الحساسية الإنسانية هي التي تحرّك القيم التي ستكفل يومًا ما الوقوف ضد السياسات الجائرة التي تبنيها مصالح الدول الكبرى.


15. كيفَ تنسُجينَ خيوطَ بحوثِكِ ونصوصِكِ، وتُترجمي أفكارَكِ الإبداعيّةِ وأنتِ غائصةٌ في لجَّةِ الأحزانِ المتفاقمةِ في هذا الزَّمنِ المفخَّخِ بالتَّوهانِ عَنِ الهدفِ، أمْ أنَّكِ تزدادينَ ألقاً وعمقاً في صياغةِ أفكارِكِ رغمَ انشراخاتِ هذا الزّمانِ؟! 

الأحزان تفتح أبواب الكتابة على مصراعيها، والمبدع هو من يأخذ بيد أحزانه ويوصلها إلى ضفّة التعبير وأناقته. الحزن صديق الإنسان، وقد كتبتُ فيه نصًّا شعريًّا يقول: 

يا صديقي الحزن

تريّث قليلاً

فعندي ما يكفي من الأحزان

وفي فنجانِ قهوتي مدينةٌ 

بلا هواء

لا تمتلك اتساعَ الأشياء

وجهُها مطفأ 

جسدُها زورق 

كآخرِ واحةٍ مهجورة على هذا الكوكب

أشدُّ فتكًا من ارتطام العظام

أشدّ فتكًا من صداعِ الشقيقة، 

يا صديقي الحزن

تريّثْ قليلًا

ولنستبدلْ قهوةَ الصباح بأغنيةٍ صغيرة.


16. لا أرى أهدافاً عظيمةً ممَّا يهدفُ إليها إنسانُ اليومِ، غالباً ما تكونُ أهدافاً عقيمةً مِنْ حيثُ فائدتُها للمجتمعِ البشري، إلى متى سيغوصُ في ترّهاتِ الحياةِ، تاركاً أسمى الأهدافِ بعيدةً عَنْ نُصْبِ عينيهِ؟!

المبدعون قلّة. إنسان اليوم غارق في الاستهلاك والتفاهة، وهذه سمات المرحلة، وإحدى نتائج الرأسمالية الفجّة وثقافة الاستهلاك. نحتاج إلى ثورة أو ثورات ثقافيّة كبرى تعيد للحياة مقاصدها وقيمتها الجوهريّة وتنتشل الفرد من ضياعه. والسؤال الكبير هنا يطال دور المثقّف أو المفكّر العربي، وغيابه الكبير.

 

17. ما هوَ دورُكِ مبدعةً، مثقَّفةً، مفكِّرةً عندما ترينَ الإنسانَ يقتلُ بني جنسِهِ بقلبٍ باردٍ، مِنْ دونِ أنْ يرمشَ لَهُ جفنٌ؟

يتميّز المثقّف في العالم العربي بأمور ثلاثة: ابتعاده عن نقد السلطة والاشتباك الفكريّ معها، الثاني هو عدم انخراطه في الصراعات والانتفاضات الشعبيّة التي خاضتها قطاعات مختلفة من الشعوب العربية، والبقاء على هامش الأحداث في معظم الأحوال، صامتًا أو منحازًا للسلطة، والثالث رهانه العنيد على السلطة القائمة في إحداث التغيير المطلوب. 

المثقّف العربيّ في اغتراب عن محيطه. يمكنه نقد الدين، ولا يمتلك الشجاعة المعنويّة لنقد السلطة  السياسيّة. وفي بعض الدول العربيّة لا يقوى على نقد أيِّ منهما، بل يصبّ جام غضبه على الاستعمار الغربيّ، كسبب رئيسيّ للغوغائيّة المستشرية  وغياب الإصلاحات في مجتمعه. 

أحاول الخروج عن هذا النمط السائد من المثقّفين، لكنّنا في لبنان نعاني من الفردانية القصوى، والتعاون يكاد يكون مفهومًا غريبًا عن مجتمعنا، فترى المثقّف يعمل وحيدًا بمفرده، دون مؤازرة من المثقّفين الآخرين، لأنّ اللبناني بطبيعته يطمح إلى شخصنة المجهود الإنساني، وعدم التشارك مع آخرين بالرغم من ضآلة الإنجازات التي قد تتحقّق. 


18. كيفَ يمكنُ أنْ ننقذَ فقراءَ وأطفالَ هذا العالمِ مِنَ الخرابِ والفقرِ والقحطِ الَّذي بدأَ يستفحلُ في الكثيرِ مِنْ دولِ العالمِ؟!

بتوفير فرص العلم والعمل لهم. بتقاسم عادل لخيرات الأرض بين الدول الغنيّة والدول الفقيرة. بردم الفجوة الهائلة بين شمال الكرة الأرضيّة وجنوبها، بالاستثمار في توطيد السلام والاستقرار والتنمية بدل هدر المليارات في صناعة الأسلحة وتطويرها بلا هوادة.

القائمة تطول، والحلول كثيرة، لكن هل هناك فعلَا الإرادة السياسيّة للقيام بذلك. السياسة الدولية تقوم منذ نشوء المجتمعات الإنسانيّة على نهب ثروات الدول الفقيرة وحرمان الفقراء من أدنى شروط العيش الكريم. 


19. ما هي أفضلُ الطُّرقِ والأُسُسِ الَّتي تقودُنا إلى تحقيقِ السَّلامِ العالمي بينَ البشرِ كلِّ البشرِ؟

نبذ العنف من النفوس والنصوص، ونبذ النظرة الماديّة الأنانيّة للفرد والحكومات، الناتجة عن اعتقاد خاطىء بأنَّ السعادة المادية أكثر أهميّة من قيم الحقّ والعدل والمساواة في الفرص. 

هذه الفلسفة الماديّة للحياة ينتج عنها: 

-صراع على المصادر الطبيعية والثروات. 

-عنصريّة وتمييز عرقي ضدّ  فئات أو دول في الأسرة الدولية. 

-غياب العدالة في توزيع الثروات. 

-اختزال مفهوم السعادة باللذة الماديّة القائمة على الاستهلاك.


20. لو قامَ كلُّ إنسانٍ بأعمالِ الخيرِ والسَّلامِ والمحبّةِ لتحقَّقَ السَّلامُ كتحصيلِ حاصلٍ، ما هوَ دورُكِ في تحقيقِ هذهِ الفكرةِ؟ 

هناك ورشة عمل كبرى تحتاج الى جهود الجميع دون استثناء. منذ سنتين، تبرّعتُ عبر حملة كتاب وقمح، بريع كتبي من أجل تأمين الدواء للمحتاجين في لبنان. وأنا بصدد التأسيس لجمعيّة ثقافيّة تُعنى بتشجيع قيام مكتبات عامة في القرى النائيّة. 


21. كيفَ يمكنُ أنْ نسخِّرَ أقلامَ مفكِّري ومبدعي ومبدعاتِ هذا العالمِ مِنْ أجلِ تحقيقِ السَّلامِ والكرامةِ الإنسانيّةِ؟

الحضارة هي فنّ إنتاج السلام. 

عام ١٩٣٢، بادر أينشتاين بتوجيه رسالة إلى سيغموند فرويد موضوعها: "هل هناك وسيلة تنقذ البشرية من كارثة الحروب؟" فردّ فرويد برسالة مطوّلة  شرح فيها فلسفته الأخلاقيّة في الحياة، فقال إنَّ في حوزة البشريّة ما يكفي من المال والثروة والغذاء إذا وزعّنا ثروات العالم بشكلٍ سليم، بدلًا من أن نجعل أنفسنا عبيدًا للعقائد الاقتصاديّة والتقليديّة الجامدة. وإنَّ علينا قبل كلِّ شيء أن لا نتوقّف عن التفكير ونسمح بعرقلة جهودنا البناءة واستغلالها بغية إشعال حرب جديدة. 

وأضاف قائلًا: " أنا لستُ إنسانًا مسالمًا فحسب، بل مسالم ومكافح أيضًا، وأسعى من أجل تحقيق السلام. وليس هناك ما ينهي الحرب إلّا إذا رفض الناس كلّهم الانخراط في الخدمة الحربيّة". 

ونحن، الشاهدون على مآسي هذا الزمن، والقلقون باستمرار على مصير البشريّة نحتاج لأن نقف معًا ونلتزم بشكلٍ غير منقوص بقضايا الإنسان ضدّ العدمية التي تحطّم آمالنا في حياة من دون حروب. 


22. ما رأيُكِ بتأسيسِ تيَّارٍ وفكرٍ إنسانيٍّ على مستوى العالمِ، لإرساءِ قواعدِ السَّلامِ وتحقيقِ إنسانيّةِ الإنسانِ، بإشرافِ هيئاتٍ ومنظَّماتٍ دوليّةٍ تمثِّلُ كلَّ دولِ العالمِ، كي يكونَ لكلِّ دولةٍ مِنْ دولِ العالمِ دورٌ في تحقيقِ السَّلامِ؟

 أظنّ أنّ إصلاح الأمم المتحدة سيكون كفيلًا بإعطاء الدول كافة دورًا وازنًا في تحقيق السلام الدولي. خسرت الأمم المتحدة الدور الذي قامت على أساسه بعيد نهاية الحرب العالميّة الثانية، وأصبحت اليوم أداة في يد الدول الكبرى لتنفيذ سياساتها ومصالحها في العالم. ينبغي إعادة النظر في هيكليّة الأمم المتحدة، ووكالاتها، وأنظمتها، وآليات العمل فيها بحيث يمكنها أن تواكب تطلّعات العالم اليوم في إرساء السلام والاستقرار في جميع الدول. 


23. ما هي أفضلُ الطُّرقِ لخلقِ رؤى تنويريّةٍ، ديمقراطيّةٍ، تقدميّةٍ في العالمِ العربيِّ والدُّولِ النَّاميةِ في العالمِ، لتحقيقِ السَّلامِ والاستقرارِ، بعيداً عَنْ لغةِ الحروبِ المميتةِ الَّتي دمَّرَتْ وتدمِّرُ كلَّ الأطرافِ المتصارعةِ؟

بإرساء الديمقراطية أولًا، والتأسيس لما يحاكي الإتحاد الأوروبي، فينضوي تحته الراغبون بالعمل الجماعي، والسعي إلى سنّ القوانين التي تضمن تساوي الدول الأعضاء في النفوذ والتصويت والتقرير في شؤون وشجون المنطقة العربية وتحدّياتها الكثيرة. 


24. ما رأيُكِ بإلغاءِ وإغلاقِ معاملِ السِّلاحِ في العالمِ، والوقوفِ ضدَّ صنَّاعِ الحروبِ والفكرِ القائمِ على الصِّراعاتِ، ومعاقبةِ كلِّ مَنْ يقفُ ضدَّ السَّلامِ، لتحقيقِ السَّلامِ بقوّةِ القانونِ العالمي، وذلكَ بمحاسبةِ الجانحينَ نحوَ الحروبِ ودمارِ الأوطانِ؟!

لا أظنّ أنَّ الدول الكبرى ستسمح بإغلاق صناعة الحديد والموت، والتي توفّر ليس فقط العمل لشريحة كبرى من مواطنيها، بل تضمن أيضًا تفوّقها وسيادتها وأمنها القومي. 


25. ألَا ترينَ أنَّهُ آنَ الأوانُ لتأسيسِ "جبهةِ" سلامٍ عالميّةٍ مِنْ خلالِ تواصلِ المبدعينَ والمفكِّرينَ مِنْ شتّى الاختصاصاتِ، والدَّعوةِ لتأسيسِ دستورٍ عالميٍّ عبرَ مؤسَّساتٍ وهيئاتٍ عالميّةٍ جديدةٍ، لتطبيقِ السَّلامِ عبرَ هذهِ التَّطلُّعاتِ على أرضِ الواقعِ؟

 بلى، هذه فكرة جيّدة وعساها تتحقّق بفضل الجهود الخيّرة لأصحاب الرؤى الفذّة من مفكّرين ومثقّفين، وفنّنانين وكتّاب. نشدّ على أياديكم، وبالله التوفيق.


صبري يوسف

أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم

رئيس تحرير مجلّة السّلام الدَّولية


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق