حرفُ الكاتبة السُّوريّة حوريّة الصَّفدي موشومٌ بالسُّموِّ وأصفى حبورِ التَّجلِّي




حوار صبري يوسف – ستوكهولم، 

الكاتبة السُّوريّة حوريّة الصَّفدي، كاتبةٌ مُرهِفةٌ في بناءِ حَرفٍ مَوشومٍ بالسُّموِّ وأصفى حُبورِ التَّجلِّي. تكتبُ كَمَنْ تشدو للجمالِ، للمشاعرِ الدَّفينةِ في أعماقِ الرُّوحِ، يهدهدُ حرفُها هُبوبَ نَسيمِ الصَّباحٍ. تمتلكُ رؤيةً ساطعةً بالأملِ، هَلْ هذا الأملُ قادمٌ، هل سيتحقَّقُ أمْ أنَّهُ مجرَّدُ أملِ كاتبةٍ "محكومةٍ" بإشراقةِ الأملِ، في زمنِ الانكسارِ، وتفاقمِ لهيبِ النّارِ مِنْ أغلبِ الجهاتِ، فلا ترى أجدى مِنَ الحرفِ تناغيهِ كي تخفِّفَ عنها ضجرَ الحياةِ؟! أحبَبْتُ أنْ أُجريَ معَها هذا الحوار، فاستجابَتْ برحابةِ صدرٍ المشاركةَ في بوحِها عَنْ مرامي الحوارِ.


1ـ متى تكتبينَ، ماذا تعني لكِ الكتابة؟ 

الكتابةُ مرآةُ أرواحِنا عندما تتحجَّرُ الدَّمعةُ بالمقلِ، وشاحُ أرواحِنا عندما تحملُهُ النَّسماتُ الهاربةُ، وسادةُ نبضٍ اعتنقَ الصّراخَ صمتاً، استكانَ لمسافةِ الاستحالةِ بينَ الغيمةِ والثَّرى. أكتبُ عندما يغفو القمرُ على زندِ النَّجماتِ. أكتبُ أثناءَ صحوةِ الفجرِ على تراتيلِ الطُّيورِ فوقَ مُهودِ الأشجارِ. أكتبُ كلَّما حَنَّ السَّحابُ إلى حُضنِ السَّماءِ وعانقَ المَطرُ أزاهيرَ الصّباحِ. أكتبُ كلَّما طرقَتْ قطراتُ غيثٍ نافذةَ شجني، وعزفَتْ على إيقاعِ أجراسِ الكنائسِ. أكتبُ لحظةَ وداعِ الشَّمس عرينَ الأفُقِ وأرجوانِ المساءِ. أكتبُ كلَّما غفا حُلُمٌ على وجنةِ الألمِ، كُلَّما تهادَتْ أناملي على نصاعةِ صمْتِ الورقِ. كُلَّما هزَّني وجدٌ لعُرى السَّماءِ وقُبلةِ السَّلامِ.


2. أيُّهما أقربُ إليكِ في رِحابِ القراءَةِ، القصيدةُ أم القصّةُ، النَّصُّ الأدبي، أم فضاءَاتُ السَّردِ الرِّوائي؟! 

في رحابِ القراءَة كلُّ حرفٍ إحساسٌ، وكلُّ سطرٍ فكرةٌ. عندما أقرأ أكونُ أسيرةَ الخيالِ، أسافرُ مَع أولى الحروفِ للبعيدِ .. للشعرِ وقعُهُ الجميلُ، وللقصَّةِ فضولُ المتابعةِ، واستخلاصُ المعنى والمرادِ، للنصِّ الأدبيِّ 

جماليَّةٌ تستحوذُ على اهتمامي .. أمَّا السَّردُ الرِّوائيُّ فيشغلُ حواسي بفضاءَاتِهِ الطَّليقةِ الَّتي تتقنُ العزفَ على أوتارِ الرُّوحِ والفكرِ والقلبِ بشغفٍ واهتمامٍ ودقَّةٍ ومتابعةٍ.

في رحابِ القراءَةِ، ينصهرُ الإنسانُ بصليلِ الحروفِ، ويختالُ بخيالِهِ، بالصُّورِ والتَّشابيهِ ومآثرِ الحكايا، يتقمَّصُ أفراحَها وأشجانَها،  يبتسمُ تارةً  ويتجهَّم تارةً أخرى، يلملمُ دمعَه تارةً، ويسامرُ عُرسَ القمرِ تارةً أخرى. 

كلُّ الفنونِ الأدبيَّةِ جديرةٌ بالاهتمامِ والمتابعةِ، ومَعَ غزارةِ ما نقرأُ يصعبُ علينا الاصطفاءُ، فندعُ المآقي والمشاعرَ تأخذُنا حيثُ تختارُ وتهمسُ الحواسُ لترسو على شواطىءِ قصيدةٍ أو قصَّةٍ أو روايةٍ ..  أي تشدُّني الحروفُ العابقةُ بعطرِ المَشاعرِ وأهازيجِ الخَيالِ، وصُدقِ الواقعِ .. ونبضِ الإنسانِ بينَ السُّطورِ ..


3. هَلْ أدهشَكِ إبداعُ اللُّغةِ، كيفَ تنظرينَ إلى إبداعِ اللُّغاتِ، هَلْ تستطيعينَ أنْ تتخيَّلي واقعَ حالِ الإنسانِ مِنْ دونِ لُغاتٍ يتواصلُ عَبرَها مَعَ بني جنسِهِ في سائرِ أرجاءِ المَعمورةِ؟! 

اللُّغةُ لسانُ الشُّعوبِ ووعاءُ فكرِها وحضاراتِها منذُ القديمِ، باللُّغةِ تتواصلُ الأفكارُ وتتوارثُ القيمُ. اللُّغةُ تشحذُ مَلكةَ النُّطقِ وتطرِّزُها بألوانِ الوجودِ والأصقاعِ .. تزيِّنُها بأزهارٍ تًصقُلُ حروفَها وتحملُها على جناحِ السُّرعةِ لعالمٍ آخرَ. باللُّغةِ تتواصلُ الشُّعوبُ والحضاراتُ وتستفيدُ مِنَ التَّجاربِ الإنسانيَّةِ بكلِّ المجالاتِ. اللُّغةُ إبداعٌ حضاريٌّ حرَّرَ الأرضَ مِنْ قيدِها وحدودِها العقيمةِ نحوَ فضاءِ العالمِ. اللُّغةُ حطَّمَتْ أقفاصَ البشرِ وأطلقَتْ العنانَ للأرواحِ والأفكارِ للانطلاقِ والتَّعبيرِ بحرِّيَّةٍ وتمازجٍ مَعَ أبناءِ الأرضِ قاطبةً. اللُّغةُ وسيلةُ التَّواصلِ مُنذُ القديمِ ومَعَ أنَّها كانَتْ بدائيَّةً ومرتبطةً بالحاجاتِ البسيطةِ للإنسانِ القديمِ كي يتمكَّنَ مِنَ التَّعاملِ مَعَ جماعتِهِ ومحيطِهِ، وبدأَتْ تشقُّ عبابَ السَّماءِ وتحطِّمُ قيودَ الصَّمتِ مُعبِّرةً عَنِ الآمالِ والآلامِ. باللُّغةِ تبارَتِ العقولُ والأقلامُ نحوَ الجمالِ، نحوَ القيمِ الإنسانيَّةِ، نحو الحرَّيَّةِ والتَّطورِ والحياةِ واحترامِ الفكرِ الإنسانيِّ. إذاً اللُّغةُ دهشةُ الإبداعِ، وسرُّ الحضارةِ. لا يُمكنُ أنْ نتخيَّلَ الحياةَ مِنْ دونِ وسيلةِ تواصلٍ عبرَ اللُّغةِ، لأنَّ التَّواصلَ حاجةٌ ماسَّةٌ للبشرِ في أرجاءِ المعمورةِ وهي سبيلُ الحضارةِ وحجرُ الأساسِ في عمليَّةِ التَّطوُّرِ. وكَّلما زادَ التَّواصلُ بينَ الشُّعوبِ، ضاقَتِ الفجوةُ بينَ أصقاعِها المتناحرةِ وانصهرَتِ الحدودُ والمسافاتُ وتخطَّتِ البحارَ والمحيطاتِ لتحقيقِ أهدافٍ ساميةٍ تُنصفُ البشرَ جميعاً وتوحِّدُ تطلُّعاتِهم عَنْ طريقِ الاستفادةِ مِنْ خلاصةِ التَّجاربِ وتطوُّرِها، أي أنَّ الشُّعوبَ دوماً تتوقُ إلى التَّواصلِ السِّلميِّ الحرِّ فيما بينها. وهذا ما تحقِّقُهُ اللُّغةُ، واليومَ نشهدُ سرعةً بالتَّواصلِ بفضلِ التَّطوُّرِ العلميِّ وسهولةِ انتشارِ وانتشالِ اللُّغةِ مِنَ الجُمودِ والانكفاءِ، فحلَّقَتْ بالأرواحِ والعُقولِ بوسعِ المَدى وحققَّتْ ثورةً لُغويَّةً تخطَّتْ قوانينَ الطَّبيعةِ والبشرِ أي قوانينَ الجغرافيا والسِّياسةِ والمُجتمعاتِ وتخطَّتْ نظُمَ ودساتيرَ البلادِ قاطبةً، لتحقِّقَ التَّواصلَ الثَّقافيِّ والفكريِّ والاجتماعيِّ الَّذي منحَ البشرَ حصانةً وحرِّيَّةً في عالمٍ أصبحَ روضةً لتبادلِ الأفكارِ وتمازجِ الحضاراتِ بغضِّ النَّظرِ عَنِ المذاهبِ والأديانِ والأعراقِ والاعتقاداتِ. أي أعطَتْ دافعاً للتنويرِ والحداثةِ بطريقةٍ غيرِ مباشرةٍ. واختصرَتْ أشواطاً إعلاميَّةً عَنْ طريقِ الثَّوراتِ الفكريَّةِ والتَّنويريّةِ للشعوبِ التَّائقةِ للعدالةِ والحرِّيَّةِ والسَّلامِ. إنَّها اللُّغةُ، إنَّها الهواءُ، إنَّها الشَّمسُ والسَّماءُ الخاضنةُ لأهلِ الأرضِ. فلا يُمكنُ أنْ نتصوَّرَ الأرضَ مِنْ دونِ لُغةٍ. باللُّغةِ تسامرَ البشرُ وتناقشوا وتحابوا بكلِّ الأعرافِ والقوميَّاتِ. وحَّدَتْهم اللُّغةُ كبشرٍ، لغةُ الإنسانيَّةِ قاطبةً. سلاحُ البشرِ الَّذين حطَّموا جبابرةَ العصورِ، وحرَّروا قيدَ ألسنتِهم وخوفَ عقولِهم ووحَّدوا آلامَهم وآمالَهم. ركنُ الحياةِ والوجودِ والحضارةِ، سمةُ الإنسانيَّةِ وصوتُها وحلمُها وصدى أرواحِها في أصقاعِ المعمورةِ. هي كلمةُ سواءٍ يجتمعُ عليها أهلُ الأرضِ تحتَ سماءٍ واحدةٍ. اللُّغة مِنْ دونِ تواصلٍ كطيرٍ أبكمَ، أصمَّ عاجزٍ عَنِ التَّغريدِ. تعدَّدَتِ اللُّغاتُ والإنسانُ واحدٌ على وجهِ الأرضِ، جسدٌ وروحٌ وفكرٌ ومشاعرُ، يتوقُ لنزعِ وثاقِهِ ونيلِ حقوقِهِ ومساندةِ بني جنسِهِ، واللُّغةُ سلاحُهُ في تحقيقِ الإنسانيَّةِ. اللُّغةُ سلاحُ البشرِ لتتَّحدَ وتقفَ عِندَ حقوقِها وأحلامِها وتلجمَ سجّانَها وعربدةَ دساتيرِ الأرضِ وأعرافِها القديمةِ الَّتي تقفُ عائقاً في وجهِ التَّطوُّرِ والتَّجدُّدِ والإصلاحِ. ترقى لحُلُمِ السَّلامِ والعيشِ المُشتركِ، تتقاسمُ نِعمَ الأرضِ كما تتقاسمُ الهواءَ. وترنو لعالمٍ مِنَ الأمانِ والحقِّ والخيرِ والعدالة. يولدُ الإنسانُ بصرخةٍ، فلتكُنْ صرختُهُ هي اللُّغةُ الَّتي تحملُهُ لرحابةِ العالمِ وتلمُّ شملَ إنسانيّتهِ.


4. تمتلكينَ لُغةً سلسةً، رهيفةً، فيها مِنَ الإنسيابيَّةِ والجموحِ البهيِّ، مِمَّ تستوحينَ هذا الفضاءَ البديعَ؟! 

استوحي فضاءَاتِ لغتي وحرفي مَنْ صفوِ السَّماءِ، مِنْ غفوةِ الغيماتِ، مِنْ شدوِ الطُّيورِ، مِنْ حفيفِ الشَّجرِ.   

تعجُّ الطَّبيعةُ الرِّيفيَّةُ بخوابي الجمالِ العذريِّ الآسرِ.  طبيعةٌ هادئةٌ، حالمةٌ، تصدحُ بنسماتِ الخيالِ وأنشودةِ الرُّوحِ، طبيعةٌ تنهلُ مِنَ المآقي وعذوبةِ الصُّورِ وخضرةِ الأملِ. الطَّبيعةُ مخدعُ جوارحي وصدى نبضي، بها أتنفَّسُ، بها أرنو لعشقِ الجمالِ. بها أتلمَّسُ مَعنى القيمِ الَّتي أودعَها الخالقُ بالبشرِ، مِنْ حبٍّ وعطاءٍ وخيرٍ ونقاءٍ. أخطُّ حروفي على أديمِ الثَّرى، أداعبُها بزهرِ الأقاحي وميسمِ الياسمينِ المتدِّلي على كتفِ الدَّوالي.  

أستمدُّ فضاءَاتِ حرفي مِنْ ضحكاتِ الطُّفولةِ الَّتي تملأُ الحيَّ فرحاً .. مِنْ سهوةِ كهلٍ على حافَّةِ العُمرِ  يتَّكىءُ على عصاهُ المنهكةِ. مِن غفوةِ أمٍّ حالمةٍ تلازمُ ساحةَ الدَّارِ وفيءِ الزَّيتونِ بانتظارِ مَنْ رحلوا. عيناها ترقبُ النَّجماتِ المسافرةَ ليلاً، والغيماتِ الصَّامتةَ نهاراً .. أمَّهاتُ وطنٍ، يتَّسعُ العالمُ ويضيقُ بأبنائِهِ، وطنٌ يُحتضرُ خلفَ متاهاتِ الزَّمنِ، وطنٌ استساغَ الموتَ والشَّوكَ والرَّحيلَ. أنهلُ نبضَ حروفي مِنْ أحلامي الموؤودةِ على حافَّةِ القَمرِ، مِنْ خُصلاتِ الشَّمسِ الباردةِ على مُحيَّا الصَّباحِ المُستكينِ، مِنْ همسِ وجدٍ يؤنسُ وحدتي مِن خلفِ المدى، ومِنْ عبيرِ نسمةٍ تُلاطفُ أجفانَ غفوتي وتدعوني لعُرسِ السَّهرِ.


5. هل لديكِ أهدافٌ مِنَ وراءِ الكتابةِ، وما هي المواضيعُ الَّتي تراودُكَ في الكتابةِ عنها، ولماذا؟!

مؤكَّد أنَّ للكتابةِ أهدافاً، أودُّ الكتابةَ للتعبيرِ عَنْ صرخةٍ للتعبيرِ عَنْ غصَّةٍ، للتعبيرِ عَنْ دمعةٍ تحجَّرَتْ في مآقي الزَّمنِ، عَنْ ظِلالٍ أقبعُ تحتَ ظلِّها الخافتِ. بالكتابةِ نسكبُ كأسَ أرواحِنا على سطحِ الورقِ، نفرِّغُ فيضَ جراحٍ تعجزُ العروقُ عَنْ حملِها على أديمِ السُّطورِ، بالكتابةِ نحلِّقُ بعُرى الخيالِ، نراقصُ السَّحابَ، نلثمُ النَّجماتِ، نزدانُ بأساورِ القمرِ، نحيا بذاكرةٍ جديدةٍ، لا تحملُ شوائبَ الزَّمنِ، ذاكرةٍ نتغنَّى بتلوينِها ورسمِ معالمِها، كما نرغبُ وبما يُرضي أرواحَنا الحالمةَ بالصَّفو وعناقِ السَّماءِ. أودُّ الكتابةَ لأطبعَ بسمةَ فرحٍ على شفاهٍ عَطشى لرحيقٍ مقدَّسٍ، رحيقٍ يبعثُ الحياةَ بالأماسي الحزينةِ. أودُّ الكتابةَ لبلسمةِ واقعٍ يجترُّ خيباتِهِ بعجزٍ وخوفٍ، واقعِ أُناسٍ ترقبُ الأملَ مِنْ طيَّاتِ القدرِ. أناسٌ تلوذُ بالصَّمتِ والقهرِ خلفَ أبوابِ الفاقةِ والصَّبرِ المريرِ، أودُّ الكتابةَ لرثاءِ أطلالٍ تندبُ مآلَها العاثرَ. تراودُني دائماً كتابةُ حكايا مبعثرةٍ على جدارِ التَّاريخِ، حكايا لَمْ تدوِّنْها الصَّفحاتُ المزيفةُ، حكايا لَمْ يُنصفْها التَّاريخُ ولا الأقلامُ. هنا وهناكَ بشرٌ .. شجرٌ .. حجرٌ يئِنُّ وجعاً، وجوعاً، وغربةً، وحزناً لا يطالُهُ الفرحُ،  حكايا أُناسٍ بلا وطنٍ، يتجرَّعونَ الذِّلَّ موتاً كلَّ لحظةٍ، حكايا سلاسلَ طالَ احتمالُها. قيودٌ أحكمَتْ وثاقَها، طغاةٌ أسرفوا بغياً، تتوالى حكايا الأوطانِ النَّازفةِ، حكايا عالمٍ مجرَّدٍ مِنَ الحسِّ الإنسانيِّ، حكايا عالمٍ يُسارعُ لمثواهِ لأنَّهُ غاصَ بالظُّلمِ حتَّى الثَّمالةِ، حكايا عالمٍ بحضارةٍ زائفةٍ وقودُها البشرُ، حلمُها الدَّنيءُ تكدُّسِ المالِ والجاهِ والسُّلطةِ على حسابِ البشرِ، عالمٍ بلا قوانينَ، يسودُهُ الظَّلامُ والانحطاطُ. حضارةٌ زائلةٌ عاجلاً أمْ آجلاً، لأنَّها مجوَّفةٌ وخاليةٌ مِنَ القيمِ. مواضيعُ مزدحمةٌ أودُّ الكتابةَ عنها، لا يتَّسعُ العمرُ لكتابةِ أحزانِها، مَعَ أنَّ الكتابةَ شهقةُ النَّجاةِ.  وواحةُ السَّلام، لكنَّ الواقعَ يخلو مِنْ بريقِ سلامٍ، أمنيتي الكتابةُ عَنْ مدينةٍ فاضلةٍ ترقى لاحترامِ البشرِ والطَّبيعةِ وتحتضنُ الوجودَ بأرجاءِ الأرضِ وتخلدُ للسلامِ.


6. أصبحَ واقعُ الحياةِ أشبهَ ما يكونُ خرافيَّاً، هَلْ نعيشُ في واقعٍ وهميٍّ خرافيٍّ، متى سينجلي هذا الواقعُ الخرافيُّ والوهميُّ، ونبني واقعاً إنسانيَّاً بديعاً يُسعدُ حياتَنا كبشرٍ جئنا لنعيشَ بكلّ هناءٍ وسعادةٍ وحرّيَّةٍ؟!

اصبحَ واقعُ الحياةِ خرافيَّاً حقَّاً. نحيا بوهمٍ نسلتذُّهُ لأنَّهُ أجدى مِنْ واقعِ حقيقةِ التَّعاسةِ. واقعٍ مُشرذمٍ عالميَّاً.   

تفاوتٌ طبقيٌّ وتصنيفٌ للبشرِ حسبَ ميزانِ القوَّةِ. البقاءُ للأقوى أصبحَ قانونُ الأرضِ للأسفِ، يتهافتُ أثرياءُ العالمِ على مَناجمِ الأرضِ ومواردِ الثَّراءِ تحتَ رعايةِ منظَّماتٍ دوليَّةٍ تحميهم بكلِّ دناءَةٍ. وهنا يكمنُ الخطرُ الَّذي ضربَ عرضَ الحائطِ بالبشرِ وحطَّمَ ميزانَ الحقِّ والحقيقةِ تحتَ نيرِ الظُّلمِ والبغيِ والسِّباقِ غيرِ الأخلاقيِّ للهيمنة على مقدَّراتِ الشُّعوبِ ونهبِها وتركِها عرضةً للجوعِ والفقرِ والاحتلالِ. عالمٌ أخرقُ جُلُّ حماقاتِهِ المالُ والسِّلاحُ الَّذي يعتبرُهُ وسيلةَ تجارتِهِ الرَّابحةِ. سلاحٌ وضيعٌ يغذِّي النِّزاعاتِ الدَّنيئةَ في الأرضِ. 

قتالٌ ودمارٌ واحتلالاتٌ، غزوٌ و تهجيرٌ وحماقاتٌ تحكمُ عالمَ اليومِ. حتَّى العلمُ أصبحَ سلعةً بأيدي العابثينَ بالشُّعوبِ. يزرعونَ الأوبئةَ لتنهشَ الأبرياءَ، بكلِّ خسَّةٍ ودناءَةٍ خُلقَ عالمٌ وهميٌّ نظنُّهُ حياةً، هو موتٌ رحيمٌ، عالمٌ ينحدرُ للقاعِ المزدحمِ قباحةً وزيفاً. حقَّاً نعيشُ خرافةَ جهلٍ مُدقعٍ، خرافةً لا تمتُّ للعقلِ بشيءِ، خرافةً تستبيحُ المجتمعاتِ وتزرعُ الفتنَ والموبقاتِ لتكرِّسَ الجهلَ والفقرَ والاستغلالَ وتهيمنَ على كلِّ ما يأتي بمخطَّطِها الوضيعِ، ولكي ينجليَ هذا الواقعُ المريرُ لا بدَّ مِنْ ثورةٍ تنويريَّةٍ تقودُ دفَّةَ التَّغييرِ وتبدأُ إعلاميَّاً بنشرِ الوعي المجتمعي لأنَّ جهلَ الإنسانِ بحقوقِهِ يُساهِمُ باستغلالِهِ وتسخيرِها. نحتاجُ لسلاحِ الوعي والفكرِ والَّذي يجتثُّ الصَّمتَ والغباءَ ويحدثُ نقلةً فكريَّةً بالعالمِ وخاصَّةً العالمَ الثَّالثَ والمجتمعاتِ الَّتي ترزخُ تحتَ نيرِ التَّخلُّفِ والاحتلالِ. نحتاجُ ثورةً تذكي قيمَ الحقِّ والعدالةِ والحرِّيَّةِ والسَّلامِ. كَما فعلَتِ الثَّورةُ الفرنسيَّةُ وأسقطَتِ الدَّولةَ والكهنةَ وأنارِتِ العالمَ بقيمِ الحقِّ والعدالةِ، فكانت أنشودةَ حرِّيَّةٍ لشعوبِ العالمِ ومثالاً يُحتذى بِهِ للوقوفِ في وجهِ الظُّلمِ والقهرِ وسلبِ الإنسانيَّةِ مِنَ البشرِ وجعلِها تلهثُ خلفَ قُوتِها اليوميِّ لتنصرفَ عَنْ إعمالِ فكرِها بقيمٍ أسمى ترنو لحياةٍ حرَّةٍ كريمةٍ، تتساوى فيها الحقوقُ والواجباتُ، وينالُ فيها الإنسانُ قسطاً مِنَ السَّلامِ والتَّعايشِ مَعَ نفسِهِ بسلامٍ وبالتَّالي مَعَ بني جنسِهِ بوئامٍ، أجل نحتاجُ ثورةً تقتلعُ جذورَ الشَّرِ وقوانينَ الغابِ الضَّالةِ وتعتمدُ على قوانينَ ودساتيرَ تُنصِفُ البشرَ، وتحترمُ حقوقَ الشُّعوبِ وحرِّيتَها ودياناتِها.  

نحتاجُ ثورةً تقتلعُ حدودَ القوميَّاتِ والمذاهبِ والأعراقِ وتستبدلُها بدينِ الإنسانيَّةِ الَّذي لا يعرفُ حدَّاً للأرضِ ولا لوناً للبشرِ ولا نهجاً للديانةِ. كلُّ ما يعرفُهُ أن تحكمَ إنسانيةُ الإنسانِ جميعَ البشرِ، تحتَ سماءٍ واحدةٍ أودعَها الله للبشرِ لتحيا بظلِّها حياةً مشتركةً تتقاسمُ الهواءَ والماءَ والخيراتِ. 

أرضٌ ملكٌ للجميعِ بتوزيعٍ عادلٍ يطالُ الجميعَ مِنْ دونِ استثناء. حينها تفيضُ الأرضُ خيراً وسلاماً وتتحقَّقُ عدالةُ توزيعِ الثَّرواتِ فوقَ الأرضِ، ويختالُ ميزانُ العدالةِ سمُوَّاً ورفعةً بالحقِّ والعدلِ والصِّدقِ. خلقنا الله كبشرٍ لنحيا فوقَ الأرضِ لا تحتَها، نحيا حياةً كريمةً ونشعرُ بانسانيَّتِنا وكرامَتِنا وحقوقِنا، جئنا للحياةِ ورقةً بيضاءَ ناصعةً مِنْ لَدُنِ السَّماءِ، ورقةً تحلمُ بالعيشِ بالفرحِ، بالوئامِ، بالحرِّيَّةِ، بالهواءِ الطَّلقِ يُنعِشُ الأرواحَ ويحلِّقُ بِها لعالمِ الخيرِ والجمالِ. مِنْ حقِّنا كبشرٍ أنْ ننعمَ بعطاءِ الخالقِ. الأرضُ ملكُ الجميعِ. ليسَتْ منَّةً مِنْ أحدٍ مِنْ أكاسرتِها الجبابرةِ، إنَّها هبةُ اللهِ للجميع .. الكلُّ متساوونَ أمام الله، لا  فضلَ لأحدٍ على الآخرِ.   

بقدرِ ما تعطي تأخذُ. الجميعُ خَلْقُ اللهِ وليسَ لأحدٍ سلطانٌ عليهم إلّا قانونُ الاخلاقِ والتَّسامحِ والمحبَّةِ. يرنو البشرُ لعالمٍ مِنَ السَّلامِ والزَّهرِ والحياةِ. ملَّتِ الأحداقُ مِنْ أشواكِهم، ملَّتِ القلوبُ مِنْ ضحاياهم، ملَّتِ الأرضُ مِنْ منظَّماتِهم، نحتاج لهيئةٍ عالميَّةٍ خالصةِ الأخلاقِ، صافيةِ الهدفِ، نبيلةِ الطُّرقِ، تُسهِمُ بنبذِ الموتِ وزرعِ الحياةِ بعالمٍ يحتضرُ و يأملُ السَّلام ليسَ إلّا.


7. ما رأيُكِ في الحياةِ، في العُمرِ، في الزَّمنِ، في الوجودِ، وفي إنسانِ هذا الزَّمانِ؟! 

الحياة تبدأ بالوعي وتنتهي بانطفاءِ الرُّوح، فالولادةُ بدايةُ الوجودِ الطَّبيعيِّ للإنسانِ، صرختُهُ الأولى الَّتي تعلنُ قدومَهُ للعالمِ، وبعدَ أنْ يبدأَ بالإدراكِ  وتلمُّسِ مُحيطِهِ يبدأُ وعيُهُ بالتَّفتُّحِ، وتبدأُ رحلةُ الحياةِ. 

الحياةُ قدرٌ وليسَتْ اختياراً، ما بأيدينا وُلدْنا، ولَمْ نختَرْ اسماءَنا ولا أبوينا ولا مذاهبَنا أو طائفتَنا، حيثُ نولدُ تكونُ هويَّتُنا، وبالوعي نتبنَّى الاسمَ والنَّسبَ والأمَّ والأبَ ومكانَ الولادةِ، تصبحُ هذهِ الهويَّةُ نقطةَ انطلاقٍ في عالمٍ كبيرٍ، وتُصبِحُ هذهِ الهويَّةُ عنوانَنا الَّذي نذودُ عنَهُ ونبني آمالنَا تحتَ سقفِها، فالهويَّةُ هي الوطنُ الَّذي ينطلقُ مِنهُ المرءُ في طريقِ الحياةِ. تَصبَحُ حياتُنا رهنَ وجودِنا الجغرافيِّ ليتحوَّلِ المكانُ الَّذي نترعرعُ فيهِ إلى جزءٍ مِن أرواحِنا، نعشقُهُ بكلِّ جوارِحنا، نعشقُ الأسرةَ ونبجِّلُ الانتماءَ إليها. وبعدَ أنْ تكتملَ أساريرُ الفهمِ ونتمكَّنَ مِنَ الاختيارِ، تبدأُ رحلةُ التَّمعُّنِ والتفكيرِ بالواقعِ، فقَدْ نستسلمُ لَهُ بحذافيرِهِ ونمضي مَعَ القطيعِ الَّذي وجدْنا بينَهُ بكلِّ رضىً وتسليمٍ وتبنٍّ لكلِّ طرقِ الحياةِ كما الجميعُ وتبنِّي الأهدافِ والقوانينِ كما الجميعُ تماماً بكلِّ إرادةٍ وقبولٍ وانصياعٍ وقناعةٍ لأيِّ تقليدٍ وتكرارِ الأمرِ. ولادةٌ فطفولةٌ فشبابُ وأسرةٌ وعملٌ وانتظارُ أجلٍ، وقَدْ يختارُ الإنسانُ طريقاً آخرَ غيرَ الَّذي نشأَ عليهِ، كأنْ يبدِّلَ مكانَهُ ويرفضَ عقيدتَهُ، ويبحثَ عَنْ جغرافيا جديدةٍ تتَّسعُ لحلمِهِ. قَدْ يختارُ التَّغييرَ طوعاً بكلِّ طواعيةٍ، وقَدْ يُجبَرُ على تركِ مكانِهِ عنوةً، كما يحدثُ أثناءَ الحروبِ والتَّهجيرِ وسنواتِ القَحطِ والجدبِ الَّتي أجبرَتِ البشرَ مُنذُ القديمِ على الرَّحيلِ وتغييرِ مكانِ الإقامةِ طلباً لحياةٍ أفضلَ، بدءاً مِنَ البداوةِ المتنقِّلةِ طلباً للماءِ والكلأ، مروراً بموجاتِ الهجرةِ الفرديَّةِ والجماعيَّةِ.   فحياةُ البشرِ تتغيَّرُ كُلَّما نضجَ وعيُهم، أي كلَّما أدركَ الإنسانُ واقعَهُ بعمقٍ وتخيَّلَ مستقبلَهُ، حاولَ التَّغييرَ والتَّجديدَ نحو الأفضلِ. البشرُ نبضُ الحياةِ. تزهو بوعيِهم ومقدرتِهم على التَّأقلمِ والتَّطوِّر وتضمرُ بسكونِهم وصمتِهم وتقليدِهم الأعمى وقلوبِهم لِما هم عليهِ. والحياةُ ديناميكيَّةٌ وحركةٌ وتقدُّمٌ، لا تستمرُّ مِنْ دونِ تجدُّدٍ وفي حالِ الرُّكودِ تبدأ بالموتِ والضُّمورِ والوهنِ، كما حدثَ في عصورِ الانحطاطِ. ولكي تستمرَّ الحياةُ لا بدَّ مِنْ مواكبةِ التَّغييرِ، لأنَّ العقمَ سبيلُ الاندثارِ.   

العمرُ فترةٌ زمنيَّةٌ يحياها الإنسانُ مِنْ ولادتِهِ حتَّى مماتِهِ، أعمارُنا أقدارٌ، نعيشها في الفترةِ الَّتي منحنا إيّاها الخالقُ، قد تمضي هباءً حينَ ترتدي ثوبَ القناعةِ والتَّسليمِ وتقبعُ ضحيَّةَ الجمودِ والانصياعِ، فلا أثرُ يذكرُ ولا لمسةٌ تطبعُ ولا حلُمٌ يتحقَّقُ. بينما يصبحُ للعمرِ معنىً، عندما نمتلكُ زمامَ القرارِ وعلى قدرٍ مِنَ المسؤوليَّةِ والحرِّيَّةِ لتبنِّي ما نريدُ واصطفاءِ ما نرغبُ مِنْ دونِ خوفٍ مِنْ نظمٍ وعاداتٍ تُنهكُ الرُّوح وتُقيِّدُ الفكرَ. فالإنسانُ سيِّدُ حياتِهِ عندما يفكِّرُ بتعقُّلٍ،  ويتأمَّلُ ما حولَهُ ويضعُ هدفاً لانطلاقتِهِ،  ويبدأُ رحلةَ العمرِ بإرادته واختيارِهِ ليدافعَ عَن قيمِهِ وحلمِهِ وما يصبو إليهِ.  

الوجودُ نقطةُ البدايةِ، ركيزةُ الكونِ، وسرُّ الوجودِ البشري لا يكمنُ في البقاءِ على قيدِ الحياةِ، لكنَّهُ يتمركزُ في شيءٍ نعيشُ مِنْ أجلِهِ، أي أنَّ الوجودَ سعادةٌ عندما نتقبَّلُها كقدرٍ وبصمةِ خالقٍ. ويستمرُّ الوجودُ باستمرارِ الجنسِ البشري في ظلِّ طبيعةٍ حاضنةٍ، وكلُّ شيء في حالةٍ مستمرَّةٍ. ويحتاجُ البشرُ إلى الانسجامِ والتَّناغمِ مَعَ الوجودِ لرفعِ مستوى معرفتِهِ وتأقلمه، كتقبُّلِ الآخرِ والتَّعايشِ معهُ في رحابِ الكونِ بهدوءٍ وسلامٍ.

إنسانُ هذا الزَّمانِ أصبحَ رهناً لعالمٍ متغيِّرٍ بسرعةٍ لا يمكنُهُ مجاراتُها، وهو الضَّحيَّةُ معَ كلِّ ما وصلَتْ إليهِ الحضارةُ. إنسانُ اليومِ مستهلكٌ في عصرِ السُّرعةِ وعصرِ العولمةِ وعصرِ التَّباري في غزو الفضاءِ وامتلاكِ الأرضِ. إنسانُ اليومِ ضحيَّةُ التَّطورِ، في الوقتِ الَّذي يُفترَضُ أنْ يكونَ ثمرةَ التَّطورِ لأنَّهُ الغاية الأسمى في الحياةِ. إنسانُ اليوم امتطى ركبَ الحضارةِ بزيفها، واستهلكته الحضارة واستغنى عَنْ إنسانيّتِهِ وسارَ في التِّيَّارِ الجارفِ. وأما بالنسبة لإنسانِنا العربيِّ فقد فقدَ الثِّقةَ بالانتماءِ والقوميّةِ والرَّوابطِ الَّتي تربطُهُ بالعروبةِ كاللُّغةِ والتَّاريخ والجغرافيا وغيرِها، لهذا منهم مَنْ اتّجه إلى الدينِ كبديلٍ للانتماءِ التّائهِ في خضمِّ التَّغييرِ الجغرافي الحاصلِ بفعل الاحتلالاتِ والهجرةِ وغيرِها مِنَ المُتغيِّراتِ. فبدأ الإنسانُ في رحلةِ بحثٍ عَنْ ملاذٍ آمنٍ، كي يعيشَ فيهِ بسلامٍ. وبدأَ الكثيرونَ يوجّهونَ أنظارهم نحوَ العالمِ المتحضّرِ الَّذي راودَ أحلامَهم، لأنَّ ظروفَ العيشِ هنا أصبحَتْ شبهَ مستحيلةٍ، بسببِ الحروبِ والفقرِ والموتِ المحيطِبالكثيرينَ مِنْ كلِّ الجهاتِ.   

الهجرة تراود الجميع تقريباً، في بلادٍ تعجزُ عَنْ حمايةِ أفرادِها، بل تجعلُهم وقوداً لسياساتِها التَّعسفيَّةِ العنيدةِ، وتستبيح إنسانيَّتهم كلَّ لحظةٍ، بالظُّلمِ والقمعِ والابتزازِ. وكأنَّ الوطن منَّةٌ مِنْ ساداتِها، وليسَ حقَّاً للجميع.   إنسانُ اليومِ في حالةِ ذهولٍ مُطلقٍ أمامَ جحيمٍ يحيطُ بِهِ وببني جنسه. ويبقى حُلمُ السَّلام معلَّقاً على جدران المساجد ودورِ العبادةِ. ومعاقلِ المنظَّماتِ الدِّولية المراوغة، وسراديبِ النِّفاقِ والمساومةِ على دماءِ البشرِ.

8. ما الَّذي يُقلقُكِ في الشَّرقِ والغربِ، كيفَ يمكنُ أنْ نخفِّفَ ممِّا يُقلقُ الإنسانَ في هذا الزَّمنِ الأهوج؟

ما يُقلقُ بهذا العالمِ الصَّمتُ المدقعُ، الصَّمتُ الَّذي يزيدُ مِنْ بطشِ الثُّلَّةِ المُسيطرةِ بسطوةِ المالِ والسِّلاحِ صمتٌ يودي إلى الهاويةَ للحاضرِ والمستقبلِ. فأيُّ مستقبلٍ ينتظرُ الأجيالَ بظلِّ هذا التَّردِّي والانحلالِ وقهرِ البشرِ، كأنْ تقولَ لكلِّ إنسانٍ أنْ يحلَّ مشاكلَهُ وحدَهُ، أمرُه لا يهمُّ أحداً. وهكذا أصبحَ الأمرُ اليومَ. كلٌّ يقتلعُ شوكَهُ بيدِهِ. لا أحدٌ يستمعُ لصوتِ الإنسانِ، صوتِ الحقِّ، صوتِ الظُّلمِ، هذا يزيدُ الأمرُ سوءاً. ما يقلقُ هو تعنُّتَ الحاكمِ بغطرستِهِ، وتجاهلِهِ لأبسطِ حقوقِ البشرِ، حتَّى أنَّهُ لا يعترفُ بوجودِ بشرٍ على بعضِ بقاعِ الأرضِ يشيرُ بإصبعِهِ لتدميرِها، ويُهدِّدُ ويتوعَّدُ بإبادةِ الأرضِ وكأنَّهُ حاكمٌ على رِقابِ العِبادِ .. ما يقلقُ  هو غفوةُ القطيعِ الَّذي يمثِّلُ الضَّحيَّةَ بكلِّ زمانٍ. غفوةٌ طالَتْ خُبزَهُ وكرامتَهُ وحوَّلتْهُ لمتسوِّلٍ على أعتابِ الدُّولِ.   

بالنِّسبةِ للشرقِ هو مكمنُ القلقِ وصاحبُ الجرحِ وصاحبُ الكارثةِ، للأسفِ نستطيعُ القولَ إنَّ الشَّرقَ انقسمَ لقسمَينِ أحدهُما طاغٍ مُشاركٍ بالجرائمِ والأهوالِ الَّتي تحصلُ وتخرقُ قوانينَ العدالةِ والإنسانيَّةِ وتلهثُ خلفَ مصالحِها وتجتازُ حدودَ جوارِها، حارقةً الأرضَ والبشرَ والشَّجرَ  والقسمُ الثَّاني مغلوبٌ على أمرِهِ  هو الضَّحيَّةُ كالدُّولِ الَّتي ترزخُ تحتَ الاحتلالِ وتتعرَّضُ شعوبُها للقتلِ والدَّمارِ والتَّهجيرِ والفاقةِ على مرأى العالمِ الَّذي يتظاهرُ بالتَّمدُّنِ ويتشدَّقُ بحقوقِ الإنسانِ. 

هذا الشَّرقُ يلفظُ أنفاسَهُ الأخيرةَ يائساً في ظلِّ حكوماتِهِ العاجزةِ المستسلمةِ للهيمنةِ الخارجيَّةِ، المُساومةِ على حقِّ بلادِها بمقدَّراتِها، العابثةِ بمُستقبلِ شعوبِها مِنْ دونِ أدنى مسؤوليَّةٍ. ورَغمَ ما سبَّبوهُ مِنْ دمارٍ لبلدانِهم مازالوا متمسِّكينَ بعنتِ عقولِهم العقيمةِ، وأسرارِها وخِزيها، ما يقلقُ بهذا العالمِ الأخرقِ، تجاوزُ كلِّ الخُطوطِ الحُمرِ. فلا حصانةٌ لبشرٍ، ولا وزنٌ للإنسانيَّةِ، ولا قيمةٌ لشعوبٍ أو حضاراتٍ، عالمٌ يقودُ الشَّرَّ والرَّذيلةَ لأنَّ القتلَ والدَّمارَ هو الرَّذيلةُ بحدِّ ذاتِها. عالمٌ يستبيحُ الدِّماءَ والآمالَ والأجيالَ بدمٍ باردٍ، لقَدْ تقلَّصَتِ الثَّرواتُ بالعالمِ لتصبحَ مَحصورةً بأيادي القلّةِ الحاكمةِ الَّتي تُهيمنُ بسطوتِها على القراراتِ الدَّوليَّةِ وتحكمُ بقبضةِ المالِ والسِّلاحِ لنيلِ المزيدِ مِنَ المُكتسباتِ حتَّى ضاقَتْ بهم الأرض وانتقلوا للإقامةِ بالفضاءِ. تقاسموا ثرواتِ الأرضِ، وانتقلوا للفضاءِ ليتقاسموا أرجاءَهُ حِصصاً مِنَ الدَّناءَةِ والخسَّةِ والجبروتِ. تبَّتْ عقولُهم وما كسبَت، تبَّتْ أياديهم وما دمَّرت ، تبَّتْ أحلامُهم وما حقَّقَتْ. عالمٌ وضيعٌ بصمتِهِ عَنِ الموتِ، عَنِ الانهيارِ والدَّمارِ. عالمٌ ينحدرُ نحوَ الظّلامِ، يقتاتُ الدِّماءَ بكلِّ ما تعنيهِ الكلمةُ، يقتاتُ الأفراحَ والأحلامَ ومسرَّاتِ الطُّفولةِ، يقتاتُ ربيعَ الأرضِ ومطرَ الحياةِ، يقتاتُ صفوَ الغيماتِ وهدوءَ السَّماءِ، يقتاتُ صوتَ الطُّيورِ المُرتعشةِ بأقفاصِها المُسبقةِ الصّنعِ. عالمٌ أذهلَنا بكمِّيةِ الشَّرِّ الَّتي يحملُها. أينَ خبَّأَ كلَّ هذا الحقدِ، وكلَّ هذهِ البراكينِ والحِممِ المُنصهرةِ؟! ليسكبَها دفعةً واحدةً على سكينةِ الأرضِ ويحيلَ خضرتَها قَحطاً ورماداً يلتهم كلَّ شيءٍ. عالمٌ تسجدُ لَهُ الشَّياطينُ وتُرفعُ لَهُ القبَّعةُ .. زمنٌ أهوجُ حقَّاً! زمنٌ مِنَ الضَّياعِ لأنَّهٌ أضاعَ بوصلةَ السَّلامِ وجوهرَ الحياةِ. أي أضاعَ الإنسانَ الَّذي يمثِّلُ جوهرَ الحياةِ وهدفَها السَّامي. زمنٌ مِنَ القُبحِ والتَّعصُّبِ والانحطاطِ طمى فيهِ الخطبُ حتَّى ازدحمَتِ الأرضُ بخطايا العصرِ وذلِّ الإنسانيَّةِ وعُقمِ الحلِّ والإصلاحِ.

9. كيفَ يمكنُنا أنْ نروِّجَ الفكرَ التَّنويريَّ في الشَّرقِ ولماذا لَمْ نتمكّنْ مِن إرساءِ الفكرِ التَّنويريِّ حتَّى الآنَ؟

نحتاجُ لفكرٍ تنويريٍّ في الشَّرقِ، لفكرٍ ضدَّ الجمودِ الفكري والعقائدي، فكرٍ يطلقُ حرِّيّةَ العقلِ والتَّعبيرِ. فكرِ ينسفُ كلَّ ما يُعيقُ مَسيرةَ الحداثةِ والتَّجدُّدِ. يؤمنُ بالبعثِ والتَّجدُّدِ والانطلاقِ بعلمانيِّةٍ موضوعيَّةٍ تقودُ ركبَ المجتمعاتِ نحوَ التَّطوُّرِ والازدهارِ بغضِّ النَّظرِ عَنِ المذاهبِ والأديانِ والاعتقاداتِ، إنَّ حاجةَ التَّنويرِ أصبحَتْ حاجةً ملحَّةً بوجهِ حالةِ الانحدارِ الَّتي وصلَتْ إليها مُجتمعاتِنا. والتَّنويرُ لا يختلفُ مَعَ الدِّينِ. لأنَّهُ يحترمُ حُرِّيَّةَ الأديانِ وحرِّيَّةَ مُمارسةِ الشَّعائرِ الدِّينيَّةِ باعتدالٍ وواقعيَّةٍ، بحيثُ لا يؤثِّرُ الدِّينُ على مسيرةِ التَّطوُّرِ والتَّقدُّمِ وعلى حرِّيَّةِ الجميعِ وأفكارِهم ومُثُلِهم. نحتاجُ لفلسفةٍ عقلانيَّةٍ وفكرٍ ثوريٍّ نهضويٍّ حُرٍّ يساندُ ثوراتِ التَّحرُّرِ والتَّقدُّمِ وينظِّمُ أهدافَها بعيداً عَنِ التَّخبُّطِ والفشلِ.

التَّنويرُ وحركةُ الإصلاحِ الَّتي شهدَها العالمُ. الإصلاحُ الدِّيني الَّذي نادى بفصلِ الدِّينِ عَنِ الدَّولةِ هذا النِّداءُ لا يقمعُ الدِّينَ إنَّما يساهمُ باستقرارِ المجتمعاتِ واستقلالِ الدِّينِ ليختصَّ بذاتِهِ ويمارسَ شعائرَهُ بهدوءٍ واستقلالٍ.

ففي المجتمعِ العربيِّ مثلاً لَمْ يتمَّ التَّرويجُ للتنويرِ بشكلٍ جيِّدٍ. فقَدْ أصبحَ مُصطلحاً مُشوَّهَ المَعنى بعيدٌ عَنِ المَعنى الحقيقيِّ للتنويرِ. لأنَّ الإصلاحَ يحتاجُ وسائلَ إعلامٍ تلامسُ الجميعَ أي العامَّةَ الَّتي تقنعُ بالخطابِ الغوغائي بلغتهِ البسيطةِ مِمَّا يستحوذُ على اهتمامِ الأكثريَّةِ عكسَ خطابِ التَّنويرِ المعقَّدِ لفظيَّاً، الَّذي يفهمُ على أنَّهُ عداءٌ للدينِ. في مُجتمعِنا لَمْ نَمُرَّ بتجربةِ أوروبا بالإصلاحِ، تجربتُها المُكلفةُ جدَّاً. هنا بقيَتِ التَّجربةُ بمستوياتِ النُّخبةِ تقريباً. لَمْ تلامسِ الواقعَ بشموليَّةٍ وخطواتٍ عمليَّةٍ أي ظلَّتْ فكراً فقط. بعمليّةِ إصلاحِ  الفكرِ لا يكفي للتبشيرِ مِنْ دونِ تعليمٍ وإعلامٍ ومساعدةِ الأنظمةِ والسُّلطةِ ونظامٍ تربويٍّ نقديٍّ. يغذِّي الفكرَ وليسَ نظامَ التَّلقينِ والاستماعِ فقط. نظامٌ يحثُّ على النِّقاشِ والتَّفكيرِ والجرأةِ وحرِّيَّةِ الطَّرحِ والرَّأيِ. وهناكَ حاجةٌ للتكاملِ بينَ الثَّقافةِ والتَّربيةِ والإعلامِ والسُّلطةِ لمواكبةِ التَّنويرِ بالعالمِ الإسلاميِّ، تأثَّرَ الإصلاحُ بأفكارِ الثَّورةِ الفرنسيَّةِ حولَ الحرِّيةِ والعدالةِ والدِّيمقراطيَّةِ، الثَّورةِ الَّتي أنارَتِ العالمَ بقيمِ العدالةِ والإنسانيَّةِ. 

واليومَ أصبحَ التَّنويرُ حاجةً مُلحَّةً للمجتمعاتِ ضدَّ الجمُودِ الفكريِّ الَّذي تعيشُهُ بعيداً عَنِ التَّقليدِ الببغاويِّ الأعمى السَّائدِ الَّذي حطَّمَ المجتمعَ. أعتقدُ أنَّ الاعتدالَ مطلوبٌ بمرحلةِ الانتقالِ، للتخفيفِ مِنْ حِدَّةِ الصِّراعِ، أي مراعاةُ الدِّينِ للحفاظِ على الاستقرارِ والهدوءِ نوعاً ما، أي انتقالٌ سلميٌّ متدرِّجٌ مُنظِّمٌ يستوعبُ التَّحجُّرَ الدِّيني وتتمسَّكُ العقولُ بِهِ لأنَّهُ ذريعتَهم وسلطتَهم الَّتي يدافعونَ عنها. 

فالسُّرعةُ بالانتقالِ الثَّوريِّ والتَّغييرِ هنا قَدْ يكونُ عُرضةً للفشلِ كما حصلَ بثوراتِ الرَّبيعِ العربيِّ الأخيرةِ الَّتي قامَتْ ضدَّ الظُّلمِ والقهرِ، والفقرِ والاستبدادِ والهيمنةِ والتَّهميشِ، فدخلَتْ بمتاهةٍ أجهضَتْ حُلُمَها بسببِ أعداءِ التَّطوُّرِ المتربِّصينَ وتعنُّتِ الجَهلِ وضُعفِ الإعلامِ المرافقِ للوعي الثَّوريِّ أي يحتاجُ الأمرُ لمساندةٍ إعلاميَّةٍ موضوعيَّةٍ متجرِّدةٍ وغيرِ منحازةٍ، تساهمُ بانطلاقِ الفكرِ والثَّورةِ.

الحداثةُ أصبحَتْ حاجةً ملحَّةً لا يمكنُ تأجيلُها للنهوضِ الفكريِّ والاقتصاديِّ والاجتماعيِّ والسِّياسيِّ وبناءِ مؤسَّساتٍ حضاريَّةٍ ديمقراطيَّةٍ تقودُ المجتمعاتِ نحوَ التَّقدُّمِ والازدهارِ واللِّحاقِ بركبِ الحضارةِ العالميَّةِ المتسارعةِ،  للأسفِ لا يحدثُ أيُّ تغييرٍ على أرضِ الواقعِ ونسيرُ للأسوأ بسببِ غيابِ الرُّؤيةِ الخلَّاقةِ التَّنويريَّةِ وطُغيانِ أفكارٍ مُتصارعةٍ تؤدِّي إلى الحروبِ المُميتةِ وتؤدِّي بالبلادِ إلى الجحيم كما نرى. لعبورٍ آمنٍ نحتاجُ إلى مفكِّرينَ مختصِّينَ ببناءِ الدَّولةِ الحديثةِ وعلاجِ الصِّراعاتِ الهدَّامةِ. فلا تكفي شطحاتُ القلمِ الفكريَّةِ والثَّوريَّةِ للتعبيرِ عمَّا نتوخَّاهُ، إنَّما نحتاجُ لأسسٍ منطقيَّةٍ وجملةِ إصلاحاتٍ وطريقةِ عملٍ، وأولى المَهامِ فصلُ الدِّينِ عَنِ الدَّولةِ لإقامةِ مجتمعٍ مدنيٍّ وتعميقِ الرُّؤيةِ التَّنويريَّةِ بكلِّ المجالاتِ. إنَّ علاقةَ الإنسانِ بالدِّينِ هي علاقتُهُ بالسَّماءِ، باللهِ، بالغيبِ، أمَّا علاقته بالأرضِ والواقعِ هي علاقةُ إنسانٍ ومواطنٍ بقانونٍ ونظامٍ ودساتيرَ ومؤسَّساتٍ تضمنُ حقوقَ الجميعِ بغضِّ النَّظرِ عَنْ أديانِهم ومذاهبِهم وطوائفِهم. 


10. لديكِ قراءَاتٌ للوحاتٍ فنّيَّةٍ، تُعبِّرينَ عَنِ انطباعاتِكِ حَولَ اللَّوحَةِ، هَلْ توافقينَني الرَّأيَ أنَّ لكُلِّ قارئٍ أو ناقدٍ للوحةِ التَّشكيليّةِ انطباعاتُهُ الخاصَّة، قَدْ يختلفُ غيرُهُ عنهُ في الانطباعِ؟! كيفَ تقدِّمينَ انطباعاتِكِ؟!

نعم، لكلِّ قارىءٍ انطباعاتٌ خاصةٌ عَنِ اللَّوحةِ الفنِّيَّةِ، بالفنِّ لا يمكنُنا التَّعميمُ، أو وضعُ شروطٍ لنجاحِ العملِ الفنِّي، الفنُّ هواءٌ طليقٌ .. يبتعدُ كلَّ البُعدِ عَنِ القيودِ والتَّحجيمِ. فلكلِّ متلقٍ أو ناقدٍ رؤاهُ الَّتي تنقلُ الإحساسَ باللَّونِ للفكرِ والرُّوحِ والمشاعرِ .. فيرى المتلقِّي العملَ بتمازجٍ موحَّدٍ بينَ فكرِهِ وحسِّهِ وروحِهِ ليستطيعَ تذوُّقَ العملِ بكلِّ وجدانِهِ .. فلكلٍّ منَّا انطباعُهُ الخاص بِهِ، الَّذي يعكسُ صدى داخلِهِ ويجدُ بالعملِ تعبيراً ملامِساً لهُ، تعبيراً خدشَ إحساسَهُ بوخزةِ نبضٍ يُفضي إلى التَّحليقِ بعالمِهِ الجماليِّ الخاصِّ بِهِ.

وهذا التَّلامسُ الحاصلُ بينَ العملِ والمتلقِّي هو خلاصةُ النَّجاحِ للعملِ هذا التَّلامسُ المختلفُ بينَ إنسانٍ وآخرَ. بالنّسبةِ لي أقدِّمُ انطباعاتي حسبَ إحساسي باللَّونِ والخطوطِ والأبعادِ الَّتي تخفيها اللَّوحةُ أي ما ترمي إليهِ مِنْ تدفُّقاتٍ خياليَّةٍ تسافرُ بفكري للبعيدِ، وتستبيحُ مشاعري وحواسي، وتتمكَّنُ مِنْ سياجِ مُخيَّلتي لتحدثَ فيها نوافذُ مِنْ تأمُّلٍ ونيازكُ مِنْ عرينِ فضاءٍ يدعوني للصمتِ تارةً، والذهولِ تارةً، والصُّراخِ تارةً، ويدعوني للبكاءِ أحياناً، كما يدعوني للرحيلِ خارجَ حدودِ الكونِ، حيثُ عذريَّةُ الحُلُمِ المُسافرِ مَعَ عبيرِ اللَّونِ.


11. لماذا لا تهتمُّ المؤسَّساتُ الشَّرقيّةُ والعربيّةُ بالفنَّانينَ والفنّاناتِ والأدباءِ والمفكِّرِينَ كما يستحقُّونَهُ؟! 

نعم، نلاحظُ تهميشاً للفنِّ والفنَّانينَ مِنْ مؤسَّساتِ المجتمعاتِ الشَّرقيَّةِ والعربيَّةِ حصراً، تهميشاً كسائرِ التَّهميشِ الَّذي يَطالُ البشرَ والشَّجرَ والكائناتِ الحيَّةَ، تهميشاً معتاداً للأسفِ. لأسبابٍ عدَّةٍ منها الجهلُ التَّامِّ بأهمِّيةِ الفنِّ في حياةِ الشُّعوبِ ودورِهِ الثَّقافيِّ والإنسانيِّ والرُّوحيِّ والجماليِّ، الَّذي يهذِّبُ النَّفسَ الإنسانيَّةَ بالجمالِ والتَّذوُّقِ والإحساسِ والرِّقَّةِ والخيالِ، ومِنَ الأسبابِ الَّتي تكونُ متعمدةً غالباً الخوفُ مِنَ الفنِّ أي الخوفُ مِنْ زرعِ قيمِ التَّفكيرِ والتَّنويرِ بنفوسِ النَّاسِ لتبقى رهنَ خوفِها وعزلتِها وتبعيَّتِها. فما حاجةُ الرَّعيةِ والقطيعِ للتذوُّقِ وإعمالِ الفكرِ وقراءَةِ رسائلِ الفنِّ الَّتي قَدْ تكونُ تحريضاً على حقِّ الحياةِ، وحقِّ الحرِّيَّةِ وتحطيمِ القيدِ، وهذا ما يتعارضُ مَعَ سياساتِ القمعِ والعبوديَّةِ ليبقى الإنسانُ تحتَ نيرِ الظُّلمِ والظَّلامِ والصَّمتِ والقُبحِ والخوفِ والعزلةِ، يرضى بما يُقدَّمُ إليهِ مِنْ ثقافةٍ كاذبةٍ تخدمُ مصالحَ مؤسَّساتٍ فاشلةٍ، جُلُّ مُنجزاتِها كرسيٌّ وإذاعةٌ وإعلامٌ يخدمُ رياءَها، ومِنَ الأسبابِ الَّتي تجعلُ المؤسَّساتِ تهمًشُ الفنَّ والفنَّانينَ، ثورةُ الفنِّ وصحوةُ الفنَّانينَ الَّتي تحرِّضُ على التَّغييرِ وتنتقدُ الواقعَ وتحثُّ على رفضِهِ كما أسلفَتْ، مؤسَّساتٌ عقيمةٌ، مادامَتْ تقمعُ الفنَّ  إنْ كانَ حُرَّاً. وتشجِّعُهُ إنْ كانَ موجَّهاً، للأسفِ هذا ما يحدثُ في عالمِنا العربيِّ، ليصبحَ الفنَّانُ عرضةً للفقرِ والحاجةِ وعجزِهِ عَنْ شراءِ موادِّ إبداعِهِ أو شراءِ إطارٍ لعرضِ أعمالِهم في ظلِّ نقابةٍ عاجزةٍ عَنِ المساعدةِ. وتاريخُ الفنِّ يشهدُ على دخولِ بعضِ الفنَّانينَ في حالاتٍ نفسيَّةٍ وانعزالِهم، نتيجةَ سوءِ أحوالِهم المادِّيَّةِ أو محاربتِهم ومحاولةِ تدجينِهم. كيفَ للخيالِ أنْ يُسجنَ أو يدَجَّنَ؟ كيفَ للونِ والفكرة أن تُسخَّرَ؟ نهاياتٌ تعيسةٌ كانَتْ مآلَ الكثيرينَ، أمثال المبدع السُّوري لؤي كيالي الَّذي ماتَ وحيداً بعزلتِهِ، وكانَ أحدَ أعلامِ الفنِّ السُّوري الَّذي جسَّدَ مآسي الشَّعب وحياةَ الفقراءِ، لتنتهي مسيرتُهُ الفنِّيَّةُ بينَ جدرانِ الكآبةِ والحزنِ وتبقى أعمالُهُ خالدةً بتاريخِ الفنِّ. نعم إنَّها المؤسَّساتُ ذاتُها الَّتي تحاربُ التَّنويرَ والتَّفكيرَ والتَّجدُّدَ، وتهمِّشُ الفنَّ والفنَّانينَ وتقتلُ الإبداعَ إرضاءً لسطوةِ أهدافِها بالهيمنةِ ودوامِ التَّخلُّفِ وموتِ الأحلامِ، ووأدِ الخيالِ، لله في مؤسَّساتِنا شؤونُ؟!.


12. الإبداعُ بمختلفِ صنوفِهِ هو الواجهةُ الحضاريّةُ لأي بلدٍ في العالمِ، الإبداعُ والثَّقافةُ العربيَّةُ إلى أين؟

نعم، يُعدُّ الابداعُ الواجهةُ الحضاريَّةُ للمجتمعاتِ، ومقياسُ تطوُّرِها واحترامِها للحياةِ ولقيمِ الجمالِ، لأنَّ الفنَّ هو جمالٌ مُطلقٌ كالقيمِ المطلقةِ، كالحقِّ، والخيرِ، والعدالةِ، والسَّلامِ، أرى بالفنِّ مُدُناً فاضلةً تنبذُ الرَّذيلةَ وتقمعُ الشَّرَّ، وتسمو بالحقِّ والجمالِ والسَّعادةِ والسَّلامِ. مُدهشٌ ما نراهُ مِنْ فنَّانينَ عربٍ في الغربِ، أبدعوا وأدهشوا العالمَ، تهجَّروا مِنْ أرضِهم حاملينَ همومَ وطنٍ مُضرَّجٍ بالموتِ والجوعِ والضّياعِ ومَعَ هذا بقي الوطنُ هاجسَهم الأوَّلَ، وحلُمَهم الأسمى، يرسمونَهُ وجعاً، وأملاً، وحُلُمَ عودةٍ وسلامٍ. لقد أثبتوا أنَّ الإنسانَ فوقَ هذهِ الأرضِ هو نفسُهُ في العالمِ .. ولكنَّ المحيطَ يَسهَمُ ببناءِ الإنسانِ أو هدمِهِ. كما يفعلُ محيطُنا المتشرذمُ العاجزُ، المهيمنُ. الفنُّ أحدُ دعائمِ الثَّقافةِ والحضارةِ، لأنَّهُ يرقى لأرفعِ مُستوياتِ الجمالِ والسَّلامِ والحياةِ، يزرعُ بذورَ الحقيقةِ والحرِّيّةِ بثنايا اللَّونِ، ويزرعُ ملَكةَ الإحساسِ والتَّذوُّقِ في ثنايا البشرِ، ليسهمَ بإنتاجِ ثقافةٍ مسالمةٍ، متعايشةٍ مَعَ العَالمِ الَّذي يوحِّدُهُ اللَّونُ كما يوحِّدُهُ اللَّحنُ، كلاهما لغةٌ عالميَّةٌ، تجتازُ الحدودَ والمَسافاتِ والعلاقاتِ العالميَّةَ مِنْ دونِ استئذانٍ، وتبلسمُ الأرواحَ وتلوِّنُ السَّماءَ، وتكسو الحياةَ ربيعاً حالماً بالحبِّ، بالمطرِ، بالوطنِ، بالصَّفاءِ، بالخيرِ والسَّلامِ. الثَّقافةُ العربيَّةُ قاصرةٌ جدَّاً عَنْ مُجاراةِ عالمِ الفَنِّ والحضارةِ والرُّقيِّ والسُّموِّ بالبشرِ، ثقافةٌ مقصّرةٌ أيضاً تجاهَ شعوبِها وتطلُّعاتِهم الجماليّةِ .. قامعةٌ لدورِهم في التَّغييرِ والتَّعبيرِ والمشاركةِ ببناءِ الأوطانِ والحضارةِ العربيَّةِ والعالميَّةِ، ثقافةٌ تنهشُ الجمالَ، وتغذِّي القُبحَ. مادامت بجمودِها ومحاربتِها للآراءِ وحُرِّيَّةِ التَّعبيرِ إنْ كانَ بالحرفِ أو بالرَّسمِ أو بالحُلُمِ.


حوار صبري يوسف

أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم

ستوكهولم: 8. 7. 2024


CONVERSATION

1 comments: