أسئلة من بريد القرّاء إلى الكاتب فراس حج محمد

 


تراكم لديّ على مدى سنوات من الكتابة والعلاقة مع القراء مجموعة من الأسئلة وردتني عبر البريد في الإيميل وفي الفيسبوك وفي تويتر، وفي تعليقات القراء على الموضوعات النقدية وغير النقدية المنشورة. رأيت فيها تجربة جيدة لمناقشة بعض الموضوعات والتركيز عليها وإعطاءها فرصة لتظهر إلى العلن، لما في العلاقة مع القراء والكتاب الزملاء من أهميّة بالغة في تطوير النقاش وبناء وجهات النظر وتعديلها، أو للتخلي عن بعض الأفكار الضعيفة والسطحية. وقد حدث هذا بالفعل.

كنت أجيب على هذه الأسئلة في حينه إجابات غير ما أنا مقتنع فيه الآن، لذلك رأيت أن أقوم بإعادة الإجابة عليها إجابة مختلفة حسب تطوّر القناعات، ولا أقول استقرارها، فلا شيء مستقر ما دام الإنسان على قيد الحياة، فهو في تغيّر مستمر في أفكاره وعلاقاته وقراءاته وموضوعات الكتابة وأساليبها. فما دمنا لم نمت فنحن سنظل خاضعين إلى التغيّر والتغيير والتبديل، فنحن في طور التشكّل دائماً، ومعرّضون لكل ما يغيّر وجهات نظرنا حول موضوعات كثيرة. فالموت وحده هو ما يعطينا صيغتنا النهائية واستقرارنا الأسلوبي والموضوعاتي.

بطبيعة الحال، الأسئلة كثيرة ومتنوعة، لكنني اخترت في هذه التجربة الأسئلة التي تتمحور حول العملية النقدية، لعلني أتابع ذلك في موضوعات الكتابة الأخرى. عليّ أن أشكر القراء الذين يقتحمون البريد فيلقون السؤال بدافع المشاكسة أو الاستفزاز أو بدافع الحب والنصيحة، وكلهم ذوو مكانة عظيمة لديّ، وأعيد وأكرّر "من نشر عرّض نفسه للنقد"، إذ إن تلك الأسئلة تحمل قدرا كبيرا من الهجوم في أحيان كثيرة، عملت على تهذيب الأسئلة، وتنقيتها من الاتهامات وأحيانا الشتائم، محتفظاً بمضمون السؤال.

أبدي اهتماما واضحاً بالقراء، لذلك ضمنت آراءهم الكثير من كتبي، بدءا من كتاب "رسائل إلى شهرزاد"، وانتهاء بكتاب "لا شيء يعدل أن تكون حرا"، وبنيت جانبا كبيرا من كتاب "بلاغة الصنعة الشعرية" على آراء القراء في مناقشة كثير من الأفكار الإشكالية، مستفيدا منها في تطوير منظومة من "النقد التفاعلي"، جاعلا هذه الآراء جزءا مهما من هذه المنظومة الجامعة بين القارئ والكاتب.

ما زلت أحبّ أن أجمع الآراء وأستمع إليها بشغف. فالكاتب لا وجود له إلا ضمن محيط القراء، فهم من يعطونه هذه الصفة، فهم الطرف الحيويّ المهم لعملية الكتابة، فلولا توقع القارئ لا يكتب الكتاب ولا ينشر الناشرون. بل إن القراء هم معيار من معايير نجاح الكاتب، فلا معنى لقوائم "الأكثر مبيعاً" لولا هؤلاء القراء.

إن في هذه التجربة كمّ من الحب والتقدير لكل من ساهم بصنعها لعلّها تؤسس لمشروع أكبر يشترك فيه الكتاب على نحو واسع، بالطريقة نفسها التي كنت أقرأ فيها بعض الكتب الصادرة عن المؤتمرات الأدبية، حيث كان المحررون يهتمون بإبراز أسئلة الجمهور، فتجتمع تلك الأسئلة وإجاباتها مع المداخلات الرئيسية، فتثري الموضوع محل النقاش، ويكتسب الحضور أهمية وفاعلية. فتتكامل وجهات النظر ويتشبّع الموضوع في رؤاه ومحتواه.

ماذا كنت تعني بالأسلوب هو الرجل نفسه في مقالك الذي عنونته بــ: "منجد صالح هو الأسلوب نفسه"، فأنا لم أجد ما وجدته في الكتاب بعد أن قرأته؟ أنت كنتَ مجاملاً فالكاتب صديقك، والمقال فيه كم هائل من الشخصنة الإيجابيّة.

يقول بوفون عن الأسلوب "أما الأسلوب فهو الرجل نفسه". ماذا تعني عبارة بوفون على وجه التقريب؟ وكيف يمكن دراسة أسلوب الرجل/ الكاتب ولا نتهم بالشخصنة. اللغة عنصر من عناصر الأسلوب، بل إن اللغة هي لب الأسلوب، وبمفرداتها وتركيباتها ومصاحباتها تخلق الأسلوب. إن الأسلوب هو أن تتكلم لغة خاصة، ذات طابع فردي على نحو غير مكرر عند الآخرين وسط اللغة العامة. وهذا ما وجدته في كتابَيْ الكاتب منجد صالح "ضاحية قرطاج" و"إيسولينا...". إنه يبني عوالمه الخاص مستأثرا بمنطقة تخصه وحده، على الرغم من عدم قناعة بعض الأصدقاء بما قدمته في هذا المقال، وتعرّضت لانتقادات عنيفة بسبب هذا العنوان المستفزّ بالنسبة لهم. وبعيدا عن علاقتي الشخصية بالكاتب أراه كاتبا ذا أسلوب لم أقرأ ما يشبهه عند الكتاب الآخرين، قد لا يعجبك أسلوبه ولك عليه انتقادات إنما هذا هو أسلوبه وطريقته في الكتابة، وهذا لا يعني المدح بالضرورة، إنما هو مجرد تحليل لعناصر الأسلوب وبناء النص.

كيف تُشتمّ رائحة الشخصنة في الكتابة النقدية؟

لعلّ مما يثير الانتباه عند تناول العمل الأدبي أو الحديث عن الشاعر أو الكاتب هو مدى "شخصنة" الكتابة؛ بمعنى دخولها في النواحي الشخصية؛ مدحا وذما، وربما تجاوز الشّمامون رائحة "الشخصنة" الإيجابية المادحة، وزكمت أنوفهم رائحة مزعومة من شخصنة أخرى، يدعون فيها أنها كانت قدحا في الكاتب وتتناول نواحيَ شخصية فيه.

أعتقد أنه من الصعوبة البالغة فصل الشخص عن لغته وعن أسلوبه، فمن يتقعر في كلامه وصار التقعر علامة على أسلوبه، لن يكون شخصه الكريم بمنأى عن الوصف أنه "متقعر" "متحذلق"، إنهما وصفان مزعجان لكنهما موضوعيان. بل دائماً هناك علاقة تلازمية بين الشخص وعمله الأدبي، إذ يشكل كل عمل أدبي "صورة محتملة" لكاتبه أطلق عليها النقد "المؤلّف الضمني"، ومحاولة الكتاب ادّعاء الحياد والموضوعية ما هي إلا حيلة مكشوفة في ميدان النقد. لا يغضب الكتّاب إذا كانت الشخصنة إيجابية الطابع، لكنهم يثورون عندما يحسّون أن الشخصنة تحمل جانباً انتقاديا. على الرغم من أنهم أحياناً يصرون على حشرك في خانة الشخصنة لمجرد انزعاجهم من النقد، وعدم تقبلهم ما تمخضت عنه القراءة النقدية، فأسهل طريقة هي الهجوم بحجر الشخصنة. أظنها في أحيان كثيرة، ومعي بالذات، ما هي إلا تهمة صارخة ليس عليها دليل.

إذاً، لا يمكن التخفيف من النزعة الشخصية في النقد؟ ما رأيك؟

أظن أن كل عملية نقدية أيضا مهما تشبث كاتبها بالموضوعية والحياد، هي انحياز ذاتي في جزء منها، شاء الناقد والكاتب أم أبيَا، لكن ثمة فرقاً بين هذا الانحياز المحسوب، وبين تناول العمل بذاتية مفرطة؛ لا ترى العمل إلا بمقاييس الذات، ولا تلفت إلى ما عدا الذات، كأن الذات تحولت إلى قاعدة ومنها ينطلق الحكم والتحليل، فيغرق الناقد عندها في المزاجية غير المحمودة، فيفتقر للأدلة وللمنطق العام في التحليل وتفسير الظواهر النصية والأسلوبية.

باعتقادي أن التخفيف من النزعة الشخصية ممكن، وممكن جداً، في أن يبدو الناقد "علمياً" مستندا إلى أسس معينة منطقية مقنعة في تناوله للعمل الأدبي، ليستطيع كَفْر الموضوعية بغلالة من الأسس والمنطلقات العلمية والمنهجية. عليه أن يكون أكثر حرصاً ويحسن التخفي وراء أدواته النقدية ومناهجه العلمية. فالناقد يحتاج لأن يكون مقبولا من الكتاب ليستطيع التأثير والمناقشة والحوار معهم.

كيف تختار الكتب والموضوعات التي تكتب عنها وتتناولها في مقالاتك؟

أظن أن في هذا الأمر جانبا غير مفهوم إطلاقاً، العلاقة الشخصية مع الكاتب أحيانا لها دور إيجابي جداً، فتسارع بالقراءة والنقد والتفصيل والتحليل، علميّا بطبيعة الحال، وأحيانا للعلاقة الشخصية مردود سلبي على عملية النقد، إما بالسكوت وإما بالكتابة والنبش في سلبيات العمل الأدبي توخيا للموضوعية وإيغالا في قهر العلاقة الشخصية ومعاندتها، ومن حيث لا نشعر نقع في نقيض آخر للعلاقة الشخصية، فنبدو غير موضوعيين، مع أن النقد مستند إلى حيثيات فنية وعلمية تبدو مقنعة عند التحليل النقدي أو تشريح القراءة النقدية.

لا أدري، أشكّ أحيانا في جدوى العملية النقدية كلها. هل يحتاج الأدب والأدباء إلى نقد؟ ولماذا؟ وهل النقد مهم إلى هذه الدرجة التي نوهم أنفسنا بها؟

عندما طرحت عليّ هذا السؤال بصيغة أخرى صديقة تمارس عملية النقد، كنت في حينها أرى أن النقد الأدبي هو صمام أمان للإبداع، مع ما في هذا التوصيف من نرجسية يتمتع بها النقاد، فكأنهم هم وحدهم من يوزع شهادات الإبداع على الكتاب. الآن أرى أن النقد عملية محاورة مع الكاتب لنصل معاً إلى أرضية مشتركة حول فهم النص، صرت أحاول أن أقول للكاتب إنني أفهم عملك على هذه الصورة، فما رأيك بهذا الفهم؟ لأفتح معه مجالا للنقاش بعد القراءة النقدية لنرى أنا وهو ما هو أعمق مما توصلت إليه من معنى محتمل.

أعتقد أن النقاد ليسوا أوصياء على الأدب، وإنما يعيدون صياغة المعنى كما يرون مستعينين بأدواتهم، وهذا أيضا يعزز الذاتية المقنّعة بالعلمية. من هذا الباب فقط كما أزعم فالنقد مهم، إضافة إلى أن للنقد مهامّ إجرائية بحثية تساعد طالبي العلم، وخاصة في الجامعة في الحصول على الشهادات، وعلى الترقيات لأعضاء هيئات التدريس في كليات الآدب واللغة العربية، أو على الدرجات العلمية واجتياز مرحلة ما دون أن يقف أحد من هؤلاء عند أهمية النقد، ولماذا نقوم به. ما يعنيهم فقط أدواته وإجراءاته، حتى مخرجات العمليات النقدية لا تجد لها احتفاء أو اهتماما يذكر خارج ممارسة النقد على الورق. النقد المهمّ هو النقد المشاكس المتمرّد على قواعد الأكاديميا، ويحاول أن يخلق له قواعد اشتباك خاصة في دوائر ثلاث: النقاد الآخرين والكتاب والقراء.

أخيرا، يقولون إن النقد مهم في الحياة، ولا بد من وجود نقاد، حتى يكون كل شيء جيدا، أو على الأقل مقبولا، فالنقد موجود في كل جوانب هذه الحياة، ويدفع الآخرين النقاد والمنقودين إلى أن يظهروا بمنظار أجمل وأفضل وأعمق.

هل تعتقد أن الكتّاب قد خيّبوا ظنك؟

لست أدري ماذا تقصد بخيبة الظن، من أنا حتى يخيّب الكتاب ظني؟ لست خازنا لبيت الإبداع الأدبي، ربما شعرت أحيانا أنني عالة على الحركة الأدبية والنقدية، وأشك في كل أدواتي النقدية والكتابية، ربما أنا من خيّبتُ ظن الكتاب وليسوا هم عندما "فشلت" في استخراج المعاني التي أودعوها في كتبهم وأعمالهم، لذلك أظل حريصا على الحوار معهم، وألا أغلق الباب دون اعتراضاتهم على ما أكتب، وأراجع ما كتبت مرة أخرى، حتى أولئك الغضابى والحردانين، ما زلت أراهم أصدقائي ولا بد من الحوار معهم يوما ما لعلنا نفهم بعضنا بشكل أفضل.

حسبما يقول بوفون إن الأسلوب هو الرجل نفسه، هل تعتقد أن لك سمتا خاصا في النقد، بحيث يميزك عن الآخرين كما هو عند الكتاب الإبداعيّين؟

لا تنس أولا أنني كاتب أيضاً، وأكتب الشعر والسرد والمقال، والنقد، وكلها أيضا تخضعني إلى النقد من الآخرين، هؤلاء أو بعضهم على الأقل يرى فيما أكتبه اختلافا عن غيره، صحيح أن كثيرين يصنفونني ضمن "كتاب الجنس والشهوة" وكاتب نساء ومتعة، وأحشر نفسي بين "فخذيّ المرأة"، وقليلاً ما أغادر تلك المنطقة على ما قالت لي صديقة يوماً طالبة مني أن أرتقي وأكتب في موضوعات أخرى. بهذا يتهمني الأصدقاء والصديقات وبعض زملاء العمل، على الرغم من أن ما كتبته بالمناسبة في هذا الموضوع- الموضوع الأيروتيكي- لا يشكل سوى واحد بالألف على أبعد تقدير مما كتبه في موضوعات إنسانية وسياسية واجتماعية ودينية.

أما النقد، فأسمع كثيرا من الإطراء من الكتاب الذين أكتب في أعمالهم جملا تعني أنني ناقد مختلف واستثنائي وعبقري، لا أحفل كثيرا بهذه الأوصاف، ولا تدغدغ نرجسيتي حتى؛ إذ إنها تأثرية بسبب ما كتبته في أعمالهم التي تصادف أن كان النقد في صالحها، لا أثق مطلقا بعبارة من قبيل "مقالك أفضل ما كتب عن روايتي". إن فيها كما هائلا من الحكم والتأثر والمباشرة واللحظية التي قد تتبخّر مع مقال آخر لكاتب "عبقري" آخر، ليصبح مقاله أيضا "أفضل وأعمق ما كتب عن الرواية أو الكتاب".

على الطرف المقابل هناك من يراني هاويا وانطباعيا وشخصانياً وغير موضوعي، ولا أحسن حتى أن أكتب نقداً "وغايب فيلة". ولا أثق بهذا الطرف أيضاً، لأنه أيضا واقع تحت تأثير سلبيات العمل التي وضعتها بين يديه، فهل سيقول لي شكرا وقد تعب على عمله، وجوّده حسب مقدرته، إلى درجة أنه ربما شعر للحظة أنه يكتب قرآناً، وهو عليه أن يقول ونحن علينا أن نؤول النص لصالحه، ولم يعذر مقدرتنا المتواضعة التي لم تستطع استخراج لألئ عمله، فيصاب بخيبة من النقد، والناقد يصاب بالدهشة وخيبة الأمل أيضا إذ لم يكن مقنعا. أعتقد أنّ على الناقد أن يكون مقنعا أولا وأخيرا لا موضوعيّا.

أما بالنسبة للشق الثاني من السؤال أظن أن "نقد النقد" كفيل بالإجابة على هذا السؤال، وليس أنا.

على ذلك ما هي شروط الكتابة النقدية باختصار لو سمحت؟

دعني أعددها لك كما أراها دون شرح:

·        اخنيار العمل الأدبي المنقود بقناعة ذاتية دون فرض من أحد؛ بعيدا عن المجاملات والوقوع في فخ ما "يطلبوه الكتّاب"

·        قراءة العمل الأدبي بعمق، والعمق يعني قراءة النص وظروفه وما حوله.

·        الكتابة بإقناع على أسس منهجية لا تخلو من تفسير شخصي ظاهر وحقيقي، فشخصيّة الناقد لا بد من حضورها.

·        حَمْل النص المنقود على أن كاتبه كان يتوخى أن يكون جيّدا لا أن يقدّم عملاً رديئاً. فإذاً لا بد من أنّ في العمل ميزة إيجابيّة، لا بد من التفتيش عليها.

·        العملية النقدية عملية مرهقة وتحتاج إلى أدوات كثيرة، أدوات بحث، وأدوات تحليل، وأدوات معرفيّة أخرى متنوعة ومتشعبة.

·        أما آخرها فدعني أفصّل قليلاً فأقول:

ألّا أقعد في رأس الكاتب وأعطيه بدائل لعمله الأدبي وتفاصيل بنائه، لا في اللغة، ولا في الصورة، ولا في التقنيات المستخدمة. فأنا لست كاتباً (إبداعيّا) في تلك اللحظة، كل ما عليّ فعله مواجهة هذا العمل كما هو، دون أن أمارس عليه تصحيحا أو تحريفا. فالنقد مهمته التعامل مع ما هو كائن لا ما يجب أن يكون عليه العمل من وجهة نظري النقدية، فاقتراح بدائل يعني باختصار فشل البنية النصية أولا وقصور فيها من وجهة نظر نقدية خالصة، وفشل الناقد ثانياً في رؤية النص كما هو عليه، وعجزه عن الاشتباك مع مقولاته واقتراحاته الجمالية.

لماذا تنحاز إلى المقالة النقدية دون أن يكون لك عمل نقدي متكامل ككتاب خارج بناء الكتاب النقدي من مجموعة مقالات؟

حاولت أن أجيب عن هذا السؤال في كتابي "ملامح من السرد المعاصر- الجزء الثالث"، ورأيت أنني أمارس النقد بالكيفية التي مارسها كثيرون قبلي كطه حسين، ورضوى عاشور، وأحمد دحبور، وأستاذي د. عادل الأسطة، على سبيل المثال، وليس هؤلاء النقاد وحسب، بل كل النقاد الذين يبنون كتبهم من مجموع مقالات متشابهة وتدور في فلك واحد، ومنهم نقاد أجانب. ربما هذه هي سمات الكتابة النقدية الفاعلة التي تتوخى الحوار مع القراء ومع الكتاب أيضاً، فيتسع النقاش أكثر بالمقال، لأنه أسرع في القراءة، وفي إدراك المطلوب، ويكتب عادة بلغة مفهومة يدركها مجموع القراء، وينشر في الصحف والمواقع الإلكترونية وعلى الفيسبوك وتويتر، ولأن الناقد أيضا يسعى لأن يكون مقروءا، فهو في النهاية كاتب، ويسعى إلى توسيع سلطاته المعرفية وجمهور قرائه، أما جمع المقالات في كتاب فمن أجل حفظها وتبويبها لعلها تخدم دارسا آخر. وهي طريقة ما زالت متبعة وناجعة في لمّ شتات الكتابات واستقرارها في كتاب يتخذ له هوية وشخصية واضحة.

الأديب الفلسطيني د. حسام رمضان: نحن نقوم باقتلاع مشاعرنا وإعادة غرسها فوق الورق



حاورته: إسراء عبوشي


الدكتور حسام رمضان كاتب فلسطيني مواليد عام 1990م، من نابلس مقيم في ألمانيا وهو خريج آداب إنجليزي من جامعة النجاح الوطنية في نابلس وحاصل على الدكتوراه في الدراسات الإنجليزية  من ألمانيا. 

رسالة الدكتوراه حملت عنوان: "دور الأدب الفلسطيني المترجم للإنجليزية بالدفاع عن الموقف الفلسطيني أمام العالم".

هذا الكتاب الأول من نوعه الذي أدخل الأدب الفلسطيني للعالمية، وقدّم للأدب ما هو مهم وضروري واستثنائي.

والدكتور حسام مؤلف كتاب "أرنا وجهك يا حنظلة"٢٠١٩، وبصدد إنتاج كتاب "٤٨" وهو عبارة عن قصص فلسطينية قصيرة مترجمة للإنجليزية، وكتاب إنجليزي بعنوان: "الترجمة ما بعد النكبة."

بالإضافة لذلك، قام بنشر رواية بعنون: "كوما" عن دار يافا للنشر والتوزيع/ الأردن هذا العام.

الكاتب حسام رمضان يرسم ملامح المستقبل بإرادة صلبة وعلم واسع، في الغربة الرؤية مختلفة والفكر حر طليق، والثقافة لا تحدها أدوار، والاجتهاد لا تقتله الفرص.  

وقد أجريتُ معه هذا الحوار


من هو حسام رمضان؟

أنا حسام رمضان، من قرية تل قضاء نابلس، أقيم منذ عام 2016 في مدينة توبنغن في ألمانيا، أعمل حاليًا أستاذًا مساعدًا في قسم اللغة الإنجليزية في جامعة النجاح الوطنية، درست الأدب الإنجليزي في الجامعة التي أعمل فيها حاليًا، وأكملتُ درجة الدكتوراه في الدراسات الإنجليزية الثقافية، ومثلي كمثل الكثير من شباب فلسطين، سافرنا حتى نرسم معالم مستقبلنا بعيدًا عن الضغوط الكبيرة التي يتعرض لها أبناء شعبنا منذ أكثر من نصف قرن.  


لماذا اخترت دراسة الأدب؟ وما أثره في صقل شخصيتك ككاتب؟

لقد اخترت الأدب كونه من أمثل الطرق التي تُعبّر عمّا يدور في دواخلنا بكل حرية وصدق، فالكلمة التي تخرج في مواقف معينة قد تكون أحيانًا غير صادقة، أو أننا نحاول تجميلها حتى لا نجرح ونحرج الآخرين، لكن في الأدب، فنحن نقوم باقتلاع مشاعرنا وإعادة غرسها فوق الورق، فالأدب من أسمى طرق التعبير ومن أكثر الأشياء التي تفرحني أنا شخصيًا، ودرست الأدب حتى أتعلم من تجارب الآخرين، علينا أن نعلم جيدًا أن الأدب الجيد هو نتاج تجارب الحياة، وفي كل مرة نقرأ فيها عملًا ما جيدًا، نصقل أنفسنا لمواجهة الحياة من خلال التعلم من تجارب الغير، ومن خلال الأدب، نتعرف على ثقافات ولغات الآخرين، فنكون قد هيأنا أنفسنا داخليًا لمعاملة من هُم غرباء عنا، أقصد هناك غرباء من ناحية الثقافة، وأسلوب الحياة، واللغة، والدين، والعادات والتقاليد، وهلم جرًا.  


الغربة تفتح آفاقًا للحرية، ويتسع الأفق لتقبّل الثقافات، كيف ساهمت الغربة في صقل شخصيتك؟ وهل أثرت على كتاباتك؟

من المقولات التي ما زالت عالقة في ذهني؛ ما تفوّه به هتلر عندما قال: "ثلاثة تصنع الرجال: السجن، العسكرية، الغربة، إذا لم تجرب واحدة منها؛ فأعلم أن مكانك عند أمك".

لم أكن أعلم جيدًا معنى تلك المقولة إلا عندما سافرت، فقد تعلمت الكثير هنا، هنا يكون الإنسان على المحك، فلا أب يوقظك من نومك، ولا أمّ تعد لك قهوة الصباح، ولا أخ يعاركك على قميص سرقته منه خلسة، ولا أخت تقف وتنظر إلى أناقة هندامك، هُنا أنت وحدك، وعليك الاعتماد على نفسك فقط، وكل يوم في الغربة أقسى من مائةٍ في بلدك، لذلك أحاول جاهدًا التعايش مع ثقافة البلد، وأجهد نفسي من أجل إثبات ذاتي، فأنا وغيري من شباب فلسطين عشنا ظروفًا صعبةً جدًا، وكان لهذا أثرٌ في صقل شخصياتنا، وهذا ما ينعكس في كتاباتي التي بدأت فيها هنا، فالحرية الكبيرة التي نعيشها هنا تتيح لك الفرصة أن تكتب كل ما يدور في خلجاتك، كذلك الغربة تجعلنا نشتاق لأيامنا التي عشناها، فكل يوم أتذكر حياتي هناك، وأحاول أن أعوض هذا النقص الكبير والشوق العميق في الكتابة. 



في روايتك "كوما" تتجول الشخصيات في فلسطين بين نابلس وغزة، هل هو الحنين للوطن؟ وما أثر المكان في تنقل الشخصيات في روايتك؟

نعم، هذه الرواية بدأتُ في كتابتها في منتصف عام 2018،  وانتهيت منها في منتصف الشهر الثامن من عام 2021، رواية تجمع قلبيّ فلسطين، اللذان لا يجتمع سكانيهما قط نظرًا للظروف السياسية الصعبة، رغم أن قدماي لم تطأ أرض غزة من قبل، إلا أنها لا تقل حبًا عن نابلس، مسقط رأسي. 

لا بد أن الحنين للوطن هو ما جعل شخصيات روايتي تتخذ من مدينة نابلس مكانًا لتقوم بأداء أدوراها الرئيسة أو حتى الثانوية، ولكن تنقلت بين الفينة والأخرى بين مدينة وأخرى، نابلس، والقدس، وغزة، وجنين، وغيرها، نرى - على سبيل المثال - الحاجة "صفية" التي تنحدر أصولها من قرية اللجون المدمرة؛ تلعب دورًا محوريًا في الرواية من خلال التعاطف الكبير الذي تبديه مع "وسام "بطل الرواية، ونستقبل - أيضًا - الطفلة "ريحانة" التي تسرد لنا معاناة أهل غزة على حاجز غوش قطيف أو حاجز 

"محفوظة" كما كان معروف لدى أهل المنطقة هناك، ونرى أن كل شخصية قد لعبت دورًا معينًا في مكانٍ ما وبشكل درامي لافت، وبهذا كان للأمكنة المتعددة أثرٌ كبيرٌ في تسلسل أحداث الرواية، وإن تعدد الأمكنة يخرج القارئ من عنصر الملل الذي ربما يجتاحه إذا دارت أحداث الراوية في مكان واحد فقط. 


حين بحثت عن نصوص لأدباء  فلسطين بغرض ترجمتها في كتاب خاص، لم تجد قاعدة بيانات ولجأت إلى البحث الشخصي، ما أهمية توثيق النصوص؟ وأهمية وجود خطة لدى وزارة الثقافة للاهتمام بالأدب عالميا؟ وكم يخدم الرواية الفلسطينية هذا الأمر؟ 


ليس بالتحديد، فأنا كنت على يقين أن الأدب الفلسطيني المترجم للإنجليزية يفتقر إلى بوتقة إلكترونية تجمع كافة المعلومات التي ستفيد الدارسين في المستقبل، حاولتُ البحث عن ذلك ولكنني لم أجد، فبدأت برحلة الدكتوراه والتي شرعت فيها بأرشفة الأدب الفلسطيني المترجم للإنجليزية إلكترونيًا، ولهذه الأرشفة الكثير من الإيجابيات التي تعود بالنفع على الأدب الفلسطيني، فالأدب الفلسطيني يحمل في ثناياه القضية الفلسطينية، وإن ترجمته وتوثيق الترجمة في صالح القضية الفلسطينية التي يجهلها أو يحاول الكثير التظاهر أنهم يجهلونها حول العالم، وإن أرشفة الأدب الفلسطيني تشجع أقسام اللغة الإنجليزية لتدريس الأدب الفلسطيني بالأدب الفلسطيني، وعلى وزارة التربية والتعليم أيضًا الاستفادة من هذا المشروع لإدراج نصوص وقصائد فلسطينية في كتب طلبة المدارس ليفهموا قضيتهم ومعاناة الشعب في الوطن والشتات بلغة جديدة يستطيعون بها الوقوف إلى جانب قضيتهم مستقبلًا، ومن هنا نرى أن وزارة الثقافة الفلسطينية تقوم بجهد يُشكرون عليه من خلال المسابقات الأدبية التي تشجع الكثيرين على الكتابة، ولكن ما فائدة الكتابة إن بقيت محصورة علينا نحن العرب؟ فنحن بحاجة إلى تحفيز المترجمين لنقل صورة فلسطين للعالم، بهذا تستطيع وزارة الثقافة - على سبيل المثال - أن تعلن عن جائزة لأفضل رواية فلسطينية نُقلت للغات أخرى، أو قصة قصيرة أو قصيدة، من خلال ذلك نستطيع رفع المستوى المتدني من ترجمة الأدب الفلسطيني للإنجليزية كلغة عالمية، فأنا وجدت من خلال أرشفة الأدب الفلسطيني أن ما تم ترجمته خلال السبعة عقود الماضية لم يتعدَ 5% من كامل الأعمال الفلسطينية التي صدرت منذ عام 1948. 


من أين تستمد شخصيات رواياتك؟

شخصيات روايتي واقعية، لكنني قمت بإضافة طابع مميز لكل شخصية حتى تتناسب مع الحدث الذي أريد تصويره والهدف العام الذي أسمو إليه في نهاية الرواية، فأبي كان حاضرًا في تلك الرواية، وكذلك أمي، وكثير من الذين لهم تأثير خاص في حياتي. 


لمن تقرأ عربيًا وعالميًا ؟

عربيًا أحب الكثير من الكتاب، منهم: غسان كنفاني، ومحمود درويش، وإيميل حبيبي، وإبراهيم نصر الله، وغيرهم، وعالميًا أقرأ لـ باولو كويلو، جين ريس، ولكن لا أستطيع الحصر، فكل عمل أدبي له جماله الخاص، وظروفه التي تجعله أفضل من عمل آخر.  


كيف يرى الغرب الرواية العربية؟

لا بد أن الغرب يثمنون الأعمال العربية التي تصور العربي بشكل مختلف عن الحقيقة، أي أنه إنسان همجي، متخلف، إرهابي، ولكن هناك بعض القراء الذين يرون في الرواية العربية والأدب العربي بشكل عام على أنه تصوير للعالم العربي، ويرون فيه جماليات ربما تكون مفقودة في أي أدب آخر. 


ما هي التحديات التي واجهتك في الغربة، وهل خدمتك الغربة في تحقيق غايتك وتطوير رؤياك، هل تعتقد أنك كنت ستحقق ما حققت في وطنك؟

التحديات كثيرة ومتعددة، ولكن أكثرها هو البعد المكاني عن الأهل، والشوق الكبير لهم، ولا بد أن للغربة محاسن فقد صقلت شخصيتي وطورت من قدراتي على تقييم الأمور بشكل رزين وحكيم، وأتاحت لي المجال بأن أطور قدراتي الكتابية، فأنا على يقين أنني لو لم أكن في غربة لما استطعت أن أنجز أو أحقق ما حققته هنا حتى الآن، فالغربة توسع الآفاق وتجعلك ترى الحياة من منظور أشمل، وهذا لا بد أنه سيؤثر إيجابًا على حياتك إذا كان هدفك ساميًا ومحددًا. 


لا كــرامــة لشاعر فــي وطــنـــه، برأيك إلى أي مدى ينطبق هذا القول الشائع على مبدعي الوطن العربي؟

هناك بيت شعر للإمام الشافعي أحفظه وأردده أحيانًا، يقول فيه: 

ارحل بنفسك من أرض تضام بها ... ولا تكن من فراق الأهل في حرق 

نعم، أنا أؤمن بهذه المقولة بلا شك، فنحن نرى الكثير من مبدعي العرب وحاملي الشهادات قد ندموا عندما عادوا إلى بلادهم، وأنا على تواصل مع البعض منهم، وعندما أسألهم عن الحياة والعودة، أول ما يقال لي: لا تعود فتندم، فبالنسبة لي أنا أعيش هنا، والوطن هو المكان الذي تشعر به بالانتماء، أي أن الوطن ليس فقط شجرة وحجر، الوطن أكبر من ذلك، الأرض للجميع، فأينما وجد الإنسان النجاح، عليه التمسك بتلك الأرض، بشرط أن يبقى وطنه الأصلي عزيزًا عليه وألا يجحد فضله أبدًا، وعندما أقول "وطنه" فأنا لا أقصد شخصيات، بل أقصد الوطن بحد ذاته.  


كم خسر الوطن من عقول مفكرة وطاقات شبابية من شأنها العمل على نهضته، عندما لم يهتم قادته باستقطاب تلك العقول؟ 

كما أسلفت سابقًا، لا أقول قادة البلاد ولكن حكام البلاد العربية بشكل عام لا يلتفتون للطاقات الشبابية التي لها القدرة على القيام والنهوض به، وبهذا يخسر الوطن الكثير من العقول النيرة المتفتحة التي تستطيع الارتقاء بالوطن لمستويات عالية. 

حنظلة، هل فعلت فعلته وأدرت ظهرك للبلاد لأن فرص الشباب قليلة؟

أنا لم أدر ظهري للبلاد، ولكن أرى أن مستقبلي في هذه البلاد، ولست محكومًا بمكانٍ ما، والله تعالى يقول: "هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الۡأَرۡضَ ذَلُولًا فَامۡشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزۡقِهِ وَإِلَيۡهِ النُّشُورُ"، أي أن الإنسان عليه أن يسعى أينما وجد سعة الرزق والطمأنينة. 


كيف تصف المشهد الثقافي الفلسطيني على مستوى العالم العربي؟

يحاول الكثير من المثقفين في أصقاع الأرض أن يرتقوا بالمشهد الفلسطيني، ولكن الكثير من العقبات تحول دون الوصول إلى الهدف المرجو، كقلة الدعم، وعدم القدرة عن التكلم بحُرية عن فلسطين، وعدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ولكن أدعو عبر هذه المقابلة وزارة الثقافة الفلسطينية أن تقوم بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، أقصد خارج حدود فلسطين، حتى يستطيع مثقفو فلسطين وصف المشهد الفلسطيني على أكمل وجه. 


ما هو حلمك على الصعيد الشخصي؟

حلمي فقط أن أكون كاتبًا على الصعيد العالمي وأن تكون كتاباتي بمثابة مصدر بحث للدارسين.    


ما الرسالة التي توجهها للشباب بعد أن حصلت على الدكتوراه وطبعت عدة أعمال وراوية، في هذا العمر؟

رسالتي واحدة، اسعَ وراء حلمك، حتى وإن كنت في مشرق الدنيا وحلمك في أقصى المغرب، فقط الحق به.