فيليب سالم : لقاح كورونا آخر هذه السنة ومنظمة الصحة العالمية فاسدة

أجرى اللّقاء إيلي القصّيفي (موقع Asasmedia)

الدكتور فيليب سالم، إبن بلدة بطرّام- الكورة وطبيب السرطان العالمي، يكتب في جريدة "النهار"، كعربون وفاء والتزام بلبنانيته. سألناه عن لبنان وثورته، كما سألناه عن "كورونا" والسرطان. والبداية، من الفيروس الذي شغل العالم طيلة الأشهر الماضية وما يزال.

كثيرة هي المحطّات والأسرار في حياة الدكتور فيليب سالم. تبدأ من بلدته بطرّام في قضاء الكورة الخضراء، ثمّ في "الجامعة الأميركية" في بيروت حيث درس الطبّ، قبل أن يسافر إلى الولايات المتحدة الأميركية للتخصّص ثمّ يعود إلى لبنان في العام 1971، ليبقى طبيباً وباحثاً وكاتباً حتى سنة 1986، حين اضطرّ إلى الرحيل مجدّداً إلى الولايات المتحدة "لأسباب أمنية"، بعدما أن كاد يُختطف من قبل الميليشيات في بيروت الغربية آنذاك لولا تدخّل أحد مرضاه لإنقاذه من المصير المجهول.
وأمّا الأسرار، فهي عن المشاهير والحكّام، خصوصاً العرب. وهو طبّب وعالج كثيرين منهم، وقد عرف عنهم أكثر مما عرفوه عن أنفسهم، لكنّه كتم أسرارهم وما يزال، إلا من توفيّ منهم. وحتّى هؤلاء فلا يتحدّث عنهم إلا لماماً ومن دون تفاصيل.

من أفياء زيتون بطرّام إلى رأس بيروت فنيويورك وهيوستن حيث أسّس منذ العام 1991 "مركز سالم للسرطان" ((Salem Oncology Center 
إضافة إلى كونه رئيساً لبرنامج الأبحاث السرطانيّة في مركر "بايلور سانت لوك الطبّي". مسيرة غنيّة بالعلم قضاها الدكتور سالم. لكنّها على اتّساعها لم تستطع أن تنسيه بلده. فهو يزور لبنان سنوياً. وما إتقانه العربية سوى دليل على روابطه العميقة مع لبنان و"دنيا العرب"، وهذا في الأصل تراث كوراني (من الكورة) يحفظه سالم كما العديدين من أبناء منطقته الذين اشتهروا بأدبهم ولغتهم.
نبدأ من كورونا. إذ يعتبر سالم أنّ "كوفيد - 19" الذي يصفه بـ "التحدّي الكبير" أظهر أمراً كان دائماً يتخوّف منه، وهو وضع الحكومات في كلّ العالم صحّة الإنسان في آخر سلّم أولوياتها. والسبب في ذلك يعود، برأيه، إلى أن حقّ الإنسان بالحياة غائب عن شرعة حقوق الانسان. ولذلك يسعى الطبيب الأميركي من أصل لبناني إلى جعل (الحق في الحياة) الحق الأول للإنسان: و"عندما يكون حقّ الإنسان بالحياة هو أوّل حقوقه، فهذا يعني أن حقّه الأوّل هو الصحّة. لانّه إذا لم تكن هناك صحّة فلا حياة".
ولهذا السبب يرى سالم أنّ "الولايات المتحدة الأميركية، الدولة المتقدّمة، التي تمتلك كلّ العلم وكلّ المقدرة، ولديها أجهزة ومراكز علمية وبحثية عدّة، لم يكن لديها جهاز موحّد برأس واحد، يدرس كيف يحمي أميركا وشعبها من جائحة كوفيد- 19، ويمنع وباءً كهذا من الخروج من الصين". ويقول: "من المؤكد أنّ الصين لعبت دوراً سلبياً إذ أخفت حقائق كثيرة حول الوباء وانتشاره، لكن كان من المفترض أن نكون في الولايات المتحدة حاضرين". ويسأل: "لماذا لم تكن أيّ دولة في العالم، لا أميركا ولا فرنسا ولا روسيا حاضرة لمواجهته؟".
السبب، برأي الطبيب ذائع الصيت، أن "حقّ الانسان في الصحة هو في أسفل قائمة اهتمامات حكومات العالم". أمّا الآن بعد وباء كورونا، فقد بدأت الدول تتحدّث عن حق الإنسان بالصحة، وتسأل كيف نمنع حصول وباء مثل كوفيد – 19. أميركا مستعدة لمجابهة هجوم نووي عليها، لكنّها ما كانت مستعدّة لانتشار فيروس مثل كورونا فيها، وهذا أمرٌ مؤسف. كما كان يمكنها أن تساعد الصين والعالم بأسره لخفض نسبة الوفيات من جرّائه".
فهل "منظمة الصحة العالمية" موضع اتهام الآن؟
يجيب سالم: "لا يستطيع المرء أن يخلط بين العلم والسياسة، وأنا أتكلم من الناحية العلمية، ولذلك أقول إنّ منظمة الصحة العالمية فشلت فشلاً ذريعاً وتاريخياً في حماية العالم من فيروس كورونا، لأنّها لم تقم بوظيفتها، وهي إذ تتبع لمنظمة الأمم المتحدة، فهما متشابهتان في ترهّلهما كما أنّ الفساد يعشعش فيهما".
يدعو سالم إلى تأمّل "كم تأخّرت المنظمة لتصل إلى قناعة بأنّ كوفيد - 19 هو جائحة عالمية. كما أنّها، عندما أعلنت الوباء العالمي، لم تطلب وقف السفر. كذلك فهي فشلت في معرفة أنّ فيروس كورونا ينتقل من الحيوان إلى الإنسان، كما في معرفة أنّه ينتقل من إنسان الى آخر. لقد أخفقت إذاً في تقصّي الحقائق العلمية عمّا حدث في الصين وذلك لأسباب سياسية. وعندما تنقضي مسألة الفيروس، فإنّه يجب دراسة أين أخطأت هذه المنظمة، وما التغيير المطلوب فيها. فشخصياً ما كنت أتوقّع أن تفشل منظمة مثلها إلى هذا الحدّ".
يرى طبيب السرطان أنّ خطر "كورونا" ما زال قائماً "لأنّنا لا نعرف بعد تماماً كيف يتصرّف هذا الفيروس. لكن هناك أمرين إيجابيين يمكن أن نتحدّث عنهما: أولّهما أنّ انتشار الفيروس تراجع كثيراً في الغرب، بينما زاد في أفريقيا ومناطق أخرى في العالم. وثانيهما أنّ قدرة الفيروس على قتل الإنسان تراجعت".

يضيف: "لا نعرف بعد إذا حصل تحوّلٌ في الفيروس أو لا، لكن الأكيد أنّ قدرته على قتل المصاب هي أقل من ذي قبل". كذلك يعتبر أنّ "تدابير الحجر والإجراءات الوقائية التي اتخذت كانت على الخط الصحيح. ففي ظلّ غياب الدواء الجيد واللقاح، تبقى الوقاية أهمّ أمر، كي لا يعود الفيروس بشكل كبير، خصوصاً بعد استئناف الحياة الاقتصادية".
فهل سيكون هناك لقاح قريباً؟
سالم متفائل باقتراب الحصول على لقاح أكثر من تفاؤله باكتشاف دواء: "كلّ الأدوية التي اختبرت حتى الآن لم تعطِ نتيجة جيدة. (مدير المعهد الوطني الأميركي للحساسية والأمراض المعدية) أنتوني فاوتشي قال إن الريمديسفير Remdesivir يجب أن يكون العلاج الأساسي لهذا المرض، أنا أخالفه الرأي".
ويتحدّث عن "مشكلة كبيرة في الأخبار المتداولة عن الدواء واللقاح" لأنّه "بين طموح العالِم للشهرة ووصوله لنيل جائزة نوبل، وطموح الشركة لتحقيق أرباح طائلة، وطموح السياسيين لكي يجتذبوا أصوات الناخبين، ضاعت الحقيقة. لذلك جئت كرجل وتلميذ علم لأوضح الأمور على حقائقها. ولذلك أقول اليوم إنّه للأسف ليس لدينا دواء لكورونا، لا الريمديسفير ولا هيدروكسي كلوروكين ولا كلوركوين. فأيٌّ من هذه الأدوية لم يظهر أنّه أكثر فعالية من الآخر". لكنّ اللقاحات "تبشّر بالخير"، ولديه أمل أنّه "في آخر هذا العام سيكون هناك لقاح يعطى للناس العاملين في القطاعات الصحيّة والمعرّضين أكثر من سواهم للكوفيد - 19 وأقصد الأطباء".
في المقابل يرى الطبيب المتخصص في معالجة السرطان أن هناك أمراً إيجابياً آخراً في "كوفيد 19"، وهو أنّه جعل السرطان أخف وطأة وأعطاه صورة أفضل من تلك التي كانت له. أمّا عن التطوّر في معالجة السرطان، فـ"هو كبير لكنّه تدريجي، مثل المعرفة  التي هي عملية تراكمية. نحن لدينا الآن أدوية جديدة، وخلطات عديدة من أدوية متنوّعة، وهي بدأت تعطي نتائج جيدة جداً". ولذلك، فإنّ التطوّر الذي حصل في معالجة الأمراض السرطانية هو عظيم، بحسب سالم: "عندما دخلت هذا الحقل قبل 52 عاماً، ما كان يمكننا أن نشفي أكثر من خمسة في المئة من المرضى. أمّا اليوم فإذا وضعنا الطرق العلمية الحديثة في خدمة البشر، نستطيع أن نشفي ونؤمّن الوقاية لحوالي 90 في المئة من حالات السرطان".
وإذ يؤكد أنه "بالوقاية والعلاج والتشخيص المبكر يمكن زيادة نسبة الشفاء التام من السرطان إلى 90 في المئة"، يكرّر أسفه لكون الصحة ليست أولوية لدى الحكومات لا في أميركا ولا في أيّ مكان في العالم. ويختم: "بل ليست هناك سياسات صحيّة، تضع المعرفة العلمية التي نمتلكها اليوم في خدمة البشر".
إذا لم يكن للثورة قيادة تسود الفوضى
كلّ دولار دُفع لمساعدة لبنان ذهب لجيوب السياسيّين

عاش الدكتور فيليب سالم، الطبيب المتخصّص بمعالجة السرطان فترة الحرب في لبنان من العام 1975 حتّى العام 1986. أي أنّه خبر عن قرب التهابات السياسة اللبنانية وعوارضها الخطيرة خصوصاً عندما تنجرّ إلى العنف، وأحياناً كثيرة تكون الأضرار الجانبية للعلاج أخطر من عوارضها نفسها. والأمثلة على ذلك كثيرة وأبرزها في تاريخ الحرب – التي يرفض تسميتها بالـ"أهلية" – الاستعانة بـ "قوات الردع العربية" في العام 1976. تلك التي عوض أن تكون جزءاً من الحل أصبحت جزءاً من المشكلة، بعد أن باتت سوريةً بحت.

ولعلّ تجربة واحد من أشهر الأطباء في العالم مع الحرب، تجعله شديد الحساسيّة تجاه مشاهد العنف في الثورة اللبنانية (ثورة 17 تشرين- أكتوبر). برأيه أنّ الثورة عندما تلجأ إلى العنف تسقط، وأنّها كما أيّ جسم حيّ تحتاج رأساً وإلا غرقت في الفوضى. ويرى أيضاً أنّ لبنان بات ساحة بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، و"هذا خطر كبير عليه".
إلى ذلك يتخوّف سالم من أن يدفع الجوع لبنانيين كثيرين إلى الهجرة، فيصبح لبنان "الذي استقبل مئات آلاف اللاجئين مصدّراً للاجئين من أبنائه إلى دول العالم"... ورغم أنّ الحرب القذرة التي بدأت عام 1975 واستمرّت أكثر من 20 عاماً وأجبرت مئات آلاف اللّبنانيّين على الهجرة، لكنّنا لم نجد متسوّلاً واحداً في شوارع باريس ولندن ونيويورك، أو في شوارع سيدني وملبورن ومونريال وسواها من مدن العالم حيث انتشر اللّبنانيّون الهاربون من جحيم الحرب. لكنّنا اليوم بتنا نخشى أن نشهد متسوّلين لبنانيّين في لبنان نفسه بعدما تجاوز العديد من اللّبنانيّين كافّة خطوط الفقر والعوز."

يرى الطبيب في مستشفى "الجامعة الأميركية في بيروت" سابقاً: "في لبنان ليس لدينا أيّ أمل دون الثورة". لكنّه في الوقت نفسه يؤكد أنّ الثورة التي يؤمن بها ليست ضد أشخاص بل ضدّ الثقافة السياسية التي حكمت لبنان منذ الاستقلال، وتُوّجت حديثاً بالفساد والفوضى.
ويضيف: "نحن نريد أن نغيّر هذه الثقافة السائدة، لكنّي أؤمن أن التغيير يكون من خلال الثورة الحضارية. نحن يجب ألّا نشتم أحداً، وألّا نذهب إلى بيت شخص ما ونهاجمه. حتى  إذا أتى أشخاص يريدون ضربنا نُقدّم لهم وروداً. نحن مع تغيير الطبقة السياسية، لكن عبر تغيير جذري للثقافة السياسية وللمدرسة السياسية التي حكمت بلدنا لعقود".
يشرح طبيب السرطان أنّ الثقافة التي يريد تغييرها، بمعنى التخلّص منها، هي تلك التي تؤمن بأنّ الدولة بقرة حلوب نستفيد منها، وأنّ السلطة هي تسلّط على الناس. وإذ يشدّد على أنّ "الثورة هي الحلّ الوحيد"، يشير إلى "وجوب الارتفاع إلى الحضارة، وإلا سننحدر إلى الفوضى وستموت الثورة".
-       أليست بعض أساليب المتظاهرين على قدر الظلم الذي يشعرون به؟
يجيب سالم: "أنا أقدّر وجع اللبنانيين وألمهم، لكن إذا استعملنا الآليات التي نستعملها الآن، فلن ننجح. ليس هناك قيادة موحّدة. والحياة كما كلّ شيء حيّ تحتاج رأساً. إذا لم يكن هناك رأس أو قيادة للثورة فستعمّ الفوضى".

يعتبر سالم أنّه عندما بدأت الثورة في 17 تشرين الأول 2019 التفّ الناس حولها، لكن عندما يلجأ المحتجون إلى الفوضى والشتائم والعنف وتكسير المحالّ التجارية، فهذا يضعف حاضنتها الشعبية. ويقول: "الشخص الذي يملك متجراً في ساحة الشهداء هو أمانة في عنق الثورة. لذلك يجب ألا يتعرّض محلّه الذي بناه من جنى عمره للتكسير والحرق. نحن ضدّ كلّ أمر فيه شيء من العنف، والثورة التي تستعمل العنف تنجح على المدى القصير لكنّها في النهاية تتهاوى وتسقط".
لبنان، وفق سالم، ليس دولة فقيرة، بل إنّ أيّ دولة في العالم لا تملك ما يملكه لبنان... "نحن لدينا الإنسان العظيم، المناخ العظيم، الجبال والمياه. في الشرق الأوسط كلّه ليس هناك دولة تنبع المياه من جبالها وتصبّ في بحرها. لدينا كلّ المؤهلات لكي نكون دولة عظمى. لكن انظر إلى أين وصلنا لأنّ القيادات السياسية التي توالت على الحكم، كانت تنتمي إلى ثقافة سياسية لا يمكن أن توصل إلى بناء دولة".
يلفت سالم إلى أنّ "ما نريده هو بناء دولة، ولدينا كلّ المقوّمات لذلك". ويشرح: "شرط الدولة العظمى ليس القوة العسكرية. نحن لدينا الإنسان اللبناني المتمرّد الذي استطاع أن يصمد طوال 45 سنة من الحروب والنزاعات، وبقي مرتبطاً بأرضه ووطنه، ولم يهاجر".
يضيف: "استقبلنا كلّ اللاجئين، لكن لم نصدّر لاجئين، ولم نطلب من الأمم المتحددة قرشاً لنعيل لاجئاً لبنانياً. أمّا الآن، وقد وصل كثير من اللبنانيين إلى حافة الجوع فسيصبح هناك لاجئون لبنانيون ومتسوّلون لبنانيون في قلب لبنان، وهو ما لم نره يوماً".
-       هل هناك تخوّف إذاً من موجة هجرة كبيرة من لبنان...
يجيب سالم: "هذا أكيد. فعندما يفقد اللبناني الأمل سيهاجر، لأنّه طموح ويريد عيش حياة كريمة، ولن يرضى أن يعيش في الذلّ الذي أوصله إليه السياسيون".

العنف عدوّ الثورة

في الطريق إلى أهدافكم إيّاكم والعنف، فالعنف هو العدو الأول للثورة
ويسأل: "كيف سيسكت هذا الشعب؟"، برأيه أنّ السكوت أمام الظلم جريمة، ولذلك "يجب ألا نسكت، لكن يجب ألا نعتدي على الشخص الذي لا نوافقه الرأي، وألا نفرض رأينا على الآخرين. بل علينا أن نقدّم طرحاً سياسياً ونسعى لنجاحه. فلا نريد أن ننتصر بالقوّة على الآخرين".
ثمّ ينتقل الدكتور سالم للحديث عن الظروف السياسية في المنطقة وتأثيراتها على لبنان، فيرى أنّ ما يحصل في بيروت هو ارتداد للنزاعات والصراعات الحاصلة في المنطقة، "لكن هذا أيضاً نتيجة غياب القيادات السياسية التي تحفظ لبنان".
ويقول الطبيب، العضو في "الحزب الجمهوري" الأميركي: "لبنان كان كلّ عمره ساحة، واليوم هو ساحة صراع بين الأميركيين والغرب من جهة، وبين إيران من جهة ثانية. وما يحصل في لبنان اليوم هو نتيجة الضغط الأميركي لتركيع إيران وجرّها إلى المفاوضات".
برأيه "نحن اليوم أخطر ساحة، لأنّها بين دولة كبيرة مثل أميركا، وبين أخرى كبيرة إقليمياً مثل ايران"، ويتابع: "نريد أفضل العلاقات مع إيران، وهي دولة عظيمة ولديها تاريخ عظيم، لكنّنا لا نقبل أن يحكمنا أحد".
من جهة ثانية فإنّ سالم، الذي غادر لبنان إلى الولايات المتحدة في العام 1986، يرى مشتركاً واحداً بين الاحتجاجات في لبنان وتلك التي اندلعت في المدن الأميركية عقب مقتل الرجل الأميركي الأسود على يد شرطي أبيض، وهو "غياب العدالة". ويقول: "عندما تغيب العدالة تسقط الدولة. وما قام به هذا الشرطي ليس ضدّ رجل أسود فحسب، بل ضدّ الإنسانية كلّها، ولذلك هو عار على أميركا. كما أنّ الذل الذي أوصلتنا إليه القيادات السياسية في لبنان يجعل من العار على العالم أن يقف موقف المتفرّج على مأساتنا".
لكنّ العالم ضجر، برأيه، من مساعدة لبنان "لأنّ كلّ دولار دُفع لمساعدة لبنان ذهب إلى جيوب السياسيين، ولا يزال الوضع هكذا".
بالرغم من ذلك، فهو متفائل بأن يتخطّى لبنان أزمته: "مرّ لبنان بأوضاع أخطر من التي يمرّ بها الآن وتخطّاها. لبنان لن يموت. يقتلونه كل يوم ولكنّه يرفض أن يموت، ويجب ألّا يموت أملنا به". ويختم مخاطباً أهل الثورة: "في الطريق إلى أهدافكم إيّاكم والعنف، فالعنف هو العدو الأول للثورة".

حوارات "مغرب الثقافة" ضيف الحوار: الشاعر والناقد الفلسطيني فراس حج محمد

أجرى الحوار القاصّ المغربي: أحمد العكيدي :
س: نستهل الحوار بالحديث عن الكتابة عموما والأدب خصوصا في حياتك؟
في الواقع عندما ينتبه الإنسان أنه أصبح كاتبا، سيغرق في الكثير من المشاريع، ويأخذ في البحث، ولا يستطيع التوقف، ليكتشف أنه قد غدا محاطا بالكتابة وأدواتها ومشاريعها من كل جانب، وتصبح هي شغله الشاغل. بالضبط تصبح "الكتابة حياته" التي يعيش من أجلها، ويخاف من نفاد العمر دون أن يحقق كل ما يصبو إليه، وما خطط له. لذلك عندما كنت أقرأ عن الكتّاب الراحلين، كان يهمني أولا ماذا بقي من إنتاجهم ومشاريعهم، ولم يتح لهم أن ينشروه. بتّ على قناعة تامة بعد هذه "البرمجة العصبية" لدماغي الصغير أن خيار الكتابة ليس سهلا أبدا ويلزمه الكثير من التعب ومن الأعصاب ومن القوة كذلك.
أما الأدب فقد ساهم في صناعتي الكتابية مذ كنت طفلا، إذ ليس الأدب هو فقط تلك الكتب التي نقرؤها، بل هي تلك الحياة التي عشتها وكنت ألاحظها، وتصرفات الناس في البيئة القروية التي ولدت وترعرعت وما زلت فيها. لقد وعيت أولا على أغاني أمي وتهليلاتها وتراويدها الشجية، ثم أغاني الأعراس والقصص والحكايات التي غذتني بها جدتي. ويأتي بعد ذلك الكتب، بعد أن كنت قد تشبّعت بالأدب من مصادر أخرى كان لها أكبر الأثر في شخصيتي أكثر من الكتب.
س: هل ما تزال القضية الفلسطينية محورية لدى المثقف العربي أم تأثرت بالسياسة؟
يحيل هذا السؤال إلى كثير من الالتباس والجدل، فثمة ضباب كثيف يغطي مفهوم القضية الفلسطينية، وأبجدياتها، فلم يعد يشير المفهوم إلى تلك المساحة التاريخية التي حلم بالرجوع إليها المشردون من أجدادنا عام 1948، تقلّصت وتقلّصت، فبأي فلسطين يطالب المثقف العربي، وعن أي قضية فلسطينية يدافع المثقف العربي. لقد وقع المثقف العربي في الفخ كثيرا، فليس هناك اتفاق، فلسطينيا أولا، على تفسير وشرح مفهوم واحد كالتطبيع مثلا، فكل شيء يتعلق بالقضية الفلسطينية مُختلَف فيه، مُختلَف عليه، لذلك ترى المثقف العربي ينأى جانبا، عدا أن المثقف العربي في كثير من الدول ربما التفت إلى قضايا بلده. وإن رأى أن قضايا الوطن كبيرة ومعقدة نأى بنفسه وغرق في أحلامه الخاصة. ويشهد على ذلك الكثير من الإنتاجات الإبداعية اليوم على طول البقعة العربية المشبعة بالصراعات الدموية. هذه الصراعات هي التي عقدت لسان المثقف وجعلته حيران لا يدري ماذا يقول. وربما فرّغ إحباطاته بهذيان أدبي عاكسا سوريالية الواقع المعيش.
س: هناك حضور قوي للحزن في إبداعاتك، هل يعود ذلك إلى تجليات الواقع الفلسطيني أم يتجاوزه إلى صورة أوسع وأعمق للحياة؟
بعيدا عن الذات الفردية والذات الجماعية، أرى أن العالم مهدد بمصير قاتم وبشع جدا، أتخيل مثلا الأسلحة النووية والبيولوجية والذرية لو أطلقت من مخابئها ماذا يحدث للعالم. هل تتخيل معي هذا المصير الأسود الذي يلف البشرية، كل البشرية؟ صحيح ربما كنت أحزن لبعض المصير الشخصي والجمعي المتعلق بالمصير الفلسطيني، ولكن ثمة ما هو أفظع في الدمار من شعب محتل ومن شخص يعاني خيبات يتعرض لها البشر جميعا. لقد انتبهت لهذه المعضلة الوجودية مبكرا منذ أيقنت أننا سنموت يوما. فسألت نفسي: إذا كنا سنموت ما فائدة كل ما نقوم به. أشعر بالعبث الذي يغلف الحياة كلها. لا معنى غير هذا، وقد طرحت هذه المعضلة في ديواني الأخير "ما يشبه الرثاء". 
س: يميل الكاتب العربي عموما إلى التشاؤم. في نظرك، هل نجح هذا النوع من الكتابة في إحداث تلك الصدمة المأمولة لخلخلة ركائز العار الصامدة؟
منذ تعرفنا على الأدب العربي وإلى الآن لا أذكر أنني قرأت نصا جاداً مُفرِحا، إلا النكت والنوادر التي كانت تفسر على أنها احتجاج على الواقع. حتى القرآن الكريم تجد فيه تلك الصلابة والصرامة القوية في التعبير وفي مناقشة قضايا كبرى: الإيمان والكفر، والموت والحياة، والمصير: الجنة وجهنم، ومظاهر العذاب التي تحتل في القرآن نصيبا موفورا، ولن تصل إلى النعيم المذكور إلا بعد سلسلة من التعب والشقاء. هل هذا تشاؤم أم هذه هي طبيعة الأمور؟ ليس عندي جواب. الشعر العربي يغص بالحزن، انظر إلى المعلقات مثلا، انظر إلى قصائد الرثاء، انظر إلى قصائد الغزل، حتى الغزل لم يسلم من الحزن، فلنقرأ مثلا مدونة الغزل العذري، ثم اقفز وتعال معي إلى الأدب الحديث، كل كتابنا عالجوا مشاكل ومعضلات، ومنهم من كان متشائما، بل الأغلبية كانوا متشائمين، وصار التشاؤم لازما في أدب الحداثة وما بعد الحداثة، وخلخلة اليقينيات ومساءلة المصير كله. لذلك كان الفلاسفة متشائمين في أغلبهم. هل مهمة الأدب أن يعبر عن هذا التشاؤم؟ وهل يستطيع أن يكتب بتفاؤل؟ بل لماذا يتفاءل وهو يعرف أن مصير البشرية أسود؟ ولكن ما الهدف، إجابة لسؤالك: ربما فقط ليعبر عن حالته وعن رؤاه، ويحاول أن يجعل الناس أكثر هدوءا وبعدا عن المشاكل والصراعات. عليهم أن ينتبهوا أن الحياة لا تستحق أن يقتل أحدنا صاحبه من أجلها. هذا ليس وعظا دينيا بالمطلق، وإنما هذه هي حقيقة الحياة التي أدركها الصوفيون والزهاد، فأعرضوا عنها وهاموا في خيالاتهم لعلهم يستطيعون العيش وهم في تصالح مع هذه الحياة التي قُدّر لهم أن يعيشوها رغما عنهم، وسيرحلون عنها مجبرين أيضا.
س: كناقد، كيف ترى النصوص الأدبية المعاصرة، خصوصا في الشعر والقصة القصيرة؟ 
بالإجمال هناك الكثير من "الإسهال" في الكتابة، شعرا وقصصا وروايات، هذا الإسهال خلف ظاهرة من الكتّاب الذين عاشوا لحظة النشوة العابرة، ولكنها المتجددة كل يوم أو مع كل نص. لن تجد أحدا لم يصبح كاتبا هذه الأيام. بل صار عدد الكتّاب أكبر من عدد القراء. هذه ظاهرة مقلقة، لأنها أولا تنتج غزارة مع ضعف، وتؤدي إلى تغذية الذوق الأدبي بالرديء مما يساهم على المدى البعيد بصنع ذائقة أدبية متدنية، لا تتأثر ولا تنفعل إلا بالسطحي والعابر، وبذلك يموت الأدب الجيد، ولن تجد له قراء باعتباره "هو الأدب الرديء"؛ لأنه يخالف تلك الذائقة المعتلة. هناك نصوص جيدة بلا شك ولكن الإقبال عليها ضعيف، ولا تجد لها مروجين ولا تجد لها قراء إلا ما ندر، وهم متقلصون يوميا.
ما يكتب اليوم من قصة ومن شعر، أو ما يحب كتّابه أن يطلقوا عليه هذا التصنيف في أغلبه يفتقر إلى شروط الكتابة الشعرية والقصصية. ولكنهم يكتبون، وينشرون، وتقام لهم الأمسيات، وتتحدث عنهم الإذاعات، وربما يحصلون على جوائز وتكريمات.
حسب رأيك، كيف نفهم ضعف الحركة النقدية في الوطن العربي؟
لا أظن أن الحركة النقدية في العالم العربي ضعيفة، هناك نقاد كثيرون، وهناك كتابات نقدية كثيرة وجادة وحقيقية، وهناك مؤلفات نقدية متعددة المناهج والأساليب، وهناك مجلات عريقة، شهرية وفصلية، مهمتها النقد وتأصيل النظريات النقدية، ولكن نحن لا نفتّش عنها، بل نتجنبها. فالجيل الجديد من الكتاب والكاتبات لا يقرؤون نقدا جادا، فهم لا يعرفون شيئا من المصطلحات ولا المناهج النقدية القديمة أو المعاصرة إلا ما أجبروا على قراءته في المدرسة، وتخرجوا من مدارسهم وهم يكرهون "النقد الأدبي" والنقاد، ولذلك فهم يكتبون على خير هدى وعلى غير بصيرة. النقد وجد ليتعلم الآخرون منه، وهؤلاء الآخرون هجروا النقد والنقاد، بل واتهموهم، وتطاولوا عليهم. 
الحركة النقدية العربية موجودة في كل محامل النشر، الورقية والإلكترونية، في كل صحيفة ومجلة نقدية أو ثقافية، هل يعرف هؤلاء الكتّاب النقاد وماذا أنجزوا؟ هل يعلمون أن هناك عشرات المؤلفات تصدر سنويا للنقاد المعتبرين؟ وهل يعلمون أن الصحف العربية في كل قطر عربي تضم بين صفحاتها صفحة أدبية يومية أو أسبوعية، أو ملحقا ثقافيا أسبوعيا أو شهريا، وتضم تلك الصفحات والملاحق بين موادها العديد من الكتابات النقدية والإعلان عن صدور الكتب النقدية؟
س: هناك تمرد واضح على التجنيس الأدبي من طرف مجموعة من المبدعين، هل يقود ذلك إلى تجنيس جديد؟
لا أعتقد أنه تمرد، هو باختصار عدم معرفة وجهل بالقواعد الكتابية، عليك أولا أن تتقن تلك القواعد المرعية والمستقرة التي لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بعد أخذ ورد ومدارسة وتجريب طويل الأمد، اتقن أولا الموجود والمستقرّ، وبعدها فلتجرب الأشكال الجديدة، أما أن تكتب دون معرفة ودون وعي على الأجناس بحجة انهيار الجدران بين تلك الأجناس وبوهم التمرد، فليست هذه هي الكتابة المنشودة، فإن لم تستطع فهم القواعد القديمة، فكيف ستتمكن من أن تبني قواعد جديدة. من يأتي بتجنيس جديد يكون قد مر باختبار إبداعي طويل مكثّف وغنيّ، وتولدت عنده حاجة ملحة ليكتب بشكل جديد، فالكتابة قادته لتولّد جديدها من رحم قديمة ولود، وليست عاقرا، كأرحام الكتّاب اليوم في كثير مما يكتبون.
س: حدثنا قليلا عن كتابك: "بلاغة الصنعة الشعرية"؟
هو آخر كتاب أصدرته، وصدر عن دار روافد للطباعة والنشر في القاهرة، وضعت فيه خبرة خمس وعشرين سنة من الكتابة، وأكثر من ثلاثين سنة من القراءة والاطلاع. جاء كتابا كبيرا (575) صفحة من القطع الكبير، حاولت أن أجيب على سؤال ما زال يؤرّقني: كيف يحدث الشعر؟ ولكنني بعد كل تلك الصفحات خرجت وأنا لا أملك إجابة يقينية عن حدوث هذا الكائن المسمى "الشعر". كيف يحدث؟ أين موقع الموهبة في الصيرورة الشعرية؟ أين موقع الصنعة أيضا؟ 
بحثت في كثير من الموضوعات التي تشكل حالة جدل مع الشعر، الإلهام والترجمة والدين والشعر الأيروتيكي، واللغة ودورها، والجماهيرية الشعرية وصناعة النجومية الشعرية، وغير ذلك.
س: كلمة أخيرة؟
لا يصلح في الأدب قول كلمة أخيرة، ولذا سأكتفي بشكري الجزيل لـ "مغرب الثقافة"، والأستاذ أحمد العكيدي على مبادرته لإجراء هذا الحوار.
حزيران 2020