سماح خليفة: الحركة النقدية تتأثر بالعلاقات والأحكام المسبقة

حاورها : شاكر فريد حسن ـ
س-هل لك أن تعرفي القراء على بطاقتك الشخصية؟
سماح صدقي محمد خليفة، مواليد طوباس عام 1978 لعائلة (فقهاء)، نشأت وترعرعت على أنغام الحجر ووقع الرصاص فكان للانتفاضة الأثر الكبير في كتاباتي. الوطن، المرأة، الحب والسلام، أهم القضايا التي شغتلتني. متزوجة في عجة قضاء جنين لعائلة (خليفة)
التحصيل العلمي:
حاصلة على الشهادة الثانوية(التوجيهي) من مدرسة بنات طوباس الثانوية
بكالوريوس في الأدب العربي من جامعة النجاح الوطنية نابلس.
دبلوم تأهيل تربوي من جامعة القدس المفتوحة جنين.
إجازة في تجويد القرآن الكريم وترتيله من أوقاف نابلس.
دورات في أدب الأطفال والكتابة الإبداعية.
ملتحقة ببرنامج الدراسات العليا في جامعة النجاح الوطنية نابلس.
عضو في اتحاد الكتاب والشعراء الفلسطينيين.
العمل والخبرة:
مدرسة لغة عربية في مديرية التربية والتعليم قباطية( 2002-2017) توجت بكتاب شكر وتكريم من قبل الوزير الدكتور صبري صيدم.
رئيس قسم الآداب في مكتب وزارة الثقافة جنين( 2017-2018)
محفظة للقرآن الكريم وتجويده في مساجد طوباس( 1995)
تجربة قصيرة في تقديم البرامج في بداية انطلاقة قناة الأسير الفضائية قبل أن تهاجم من قبل قوات الاحتلال.
مدربة في الكتابة الإبداعية للفئة المتوسطة في مركز تعليمي في نابلس (2010)
مجال الكتابة:
أكتب في الشعر والنثر والخاطرة والومضة والقصة القصيرة والرواية ولي مقالات وقراءات متعددة.
مجال النشر:
نشرت كتاباتي في الصحف والمواقع الالكترونية والورقية
الورقية مثل: مجلة بلسم ومجلة الزيزفونة ، صحيفة الحدث و القدس والأيام والدستور الأردنية والمراقب العراقي.....الخ
الالكترونية في جميع الدول العربية: صحيفة الفكر، صحيفة الحياة، دنيا الوطن، وكالة الأنباء الدولية، ديوان العرب، وكالة معا، أنتلجنسيا، دروب الأدب، الحرية، الحوار، الغربة، البيت الثقافي في الهند......الخ
إصداراتي:
دليل في التعلم النشط للمرحلة الوسطى. عام 2015
ديوان (أبجديات أنثى حائرة) 2017
خلال شهور ستصدر روايتي ورقيا (نطفة سوداء في رحم أبيض)
وإصدار آخر إلكترونيا بعنوان(همسات دافئة)
شاركت في إعداد منهاج لغتنا الجميلة للصف الخامس 2017
قدم العديد من النقاد قراءات نقدية في ديواني (أبجديات أنثى حائرة) نشرت في مختلف الصحف الورقية والالكترونية 

س-حدثينا عن بداياتك الشعرية وهل تأثرت بأحد من الكتاب؟
بدأت الكتابة في سن مبكرة في عمر التاسعة بالخربشة على الحيطان أيام الانتفاضة كوسيلة لرفض الظلم والعنف الذي كان يمارس ضد أبناء شعبي، ثم تدرجت كتابتي على الورق والتي لم تكن موفقة على غير عادة الشعراء لسببين: بدأت كتاباتي بنصوص عاطفية تعبر عن المرأة وحقها في الحب بكافة أشكاله كنوع من تعويضها عن الظلم والقسوة التي كان يمارسها الاحتلال من جانب والمجتمع المحافظ المنقاد للعادات والتقاليد من جانب آخر فلم يتفهم المجتمع المحيط قيمة الحب عند المرأة.
السبب الآخر كنت أنشر كتاباتي تحت اسم مستعار(أسيرة الأحزان) حتى مللت من هذا اللقب الذي يرمز إلى الضعف والاستسلام  قتوقفت عن النشر. ولذلك ظلت كتاباتي حبيسة الأدراج وقررت أن لا أنشر وأن لا يطلع عليها أحد حتى عام 2014 بدخولي عالم وسائل الاتصال والتواصل وتنبه أحد الكتاب إلى قيمة ما أكتب فشجعني على النشر ومتابعة موهبتي. ومن هنا انطلقت أكتب تحت اسمي الحقيقي.
أبو القاسم الشابي حفر في ذاكرتي قصيدته (إرادة الحياة) فظلت مقولته (أما آن لليل ان ينجلي) نصب عيني حتى الآن، ولكن حقيقة لم أتأثر بأي أحد بقدر تأثري بالحياة التي علمتني الكثير من الدروس ودفعتني إلى معترك الحياة بصلابة وثقة. فكانت كتاباتي منبرا لنقل هموم الوطن والأرض والقضية الفلسطينية والمرأة التي صورت كل ذلك من خلال عينها الثاقبة باعتبارها العنصر الأساسي في إنجاب وصناعة قادة المستقبل.

س-ماذا يعني الشعر بالنسبة لك، وهل ثمة أوقات معينة تطل فيها عرائس الشعر؟
الكتابة بشكل عام بالنسبة لي هي الأكسجين البديل الذي أتنفسه عند انقطاع الأكسجين الطبيعي -الذي جعله الله حق للبشرية- عني كامرأة فلسطينية تعيش تحت نير وظلم الاحتلال من جهة وفي مجتمع ذكوري شرقي من جهة أخرى.
تتلبسني الملكة الشعرية في منتصف الليل عندما تخلد عائلتي إلى النوم ويسيطر الهدوء التام، عندها تمطر سماء الشعر علي بغزارة لتغسل ما تراكم من هموم فرضت علي قسرا فتنقلني إلى عالم خاص طافح بالحب والحرية والقوة والرضا والسكينة.

س- ما هي الموضوعات التي تناولتها سماح في نصوصها الإبداعية وفي مجمعها الشعري؟ :
تحدثت عن الوطن والأرض والاحتلال والمرأة الفلسطينية بكافة حالاتها :المحبوبة، العاشقة، أم وزوجة الشهيد، أم وزوجة الأسير، الأسير داخل السجن وكذلك نظرة الفلسطيني في الخارج للأسير في الأسر، وأيضا الرجل العاشق، الرجل الذي تحلم به المرأة بطبيعتها، الرجل الشرقي...الخ

س-كيف ترين قصيدتك عند كتابتها؟بعد كتابتها؟بعد مرور فترة عليها؟
في الحقيقة كل نص أكتبه يتمخض عن حالة ألم أو فرح أو حاجة ربما لتجربة قد أكون مررت بها أنا او حالات كنت شاهدا عليها فدفعني حسي الإنساني لأكتب عنها، وكذلك قد أكتب نصا فقط لرغبتي في الكتابة وتفريغ طاقاتي الكامنة..
بعد كتابتها أحبها جدا أشعر وكأنها طفلي الذي أنجبته بعد مخاض عسير نتيجة ظرف مؤلم تعرضت له أو أي فلسطيني أو فلسطينية أو لمجرد حبي للقلم والكلمة التي قد تحمل القارئ إلى عالم مطواع يحقق فيه القارئ ما عجز عن تحقيقه ومعايشته على أرض الواقع..
وبعد مرور وقت عليها إذا أعدت قراءتها أبدأ برعايتها بتهذيبها وإضافة أو حذف أو تنميقها لأزيد من جماليتها  تماما كطفلي الذي أهتم بأن ينمو في بيئة سليمة وأن أزيد من جماله ورونقه وحالته الصحية. 

س-هل ندمت على كتابة قصيدة ما، وما السبب؟
في الحقيقة لم أندم يوما على ما كتبت وإنما ندمت على ما لم أكتب أو ما اضطرتني الظروف إلى حذفه من نصوصي أو إلى تغيير فيها، فنحن لا نستطيع أن ننكر أننا نعيش في مجتمع مقيد داخليا وخارجيا مجتمع مقيد بالعادات والتقاليد من جهة وبقيود الاحتلال من جهة أخرى وبالسلطة الداخلية الموجهة من جهة ثالثة.

س-ما رأيك في الحركة الثقافية الفلسطينية في المناطق المحتلة عام 1967 وهل هناك فرق بين الابداع الذي كتب يعد الاحتلال وبعد أوسلوا؟
واجهت الحركة الأدبية والثقافية الفلسطينية أوضاعا قاسية وممارسات قمعية فرضها الاحتلال الصهيوني مما أثر على الإبداع الوطني وكتم الصوت الفلسطيني الشعبي النابض بسبب الرقابة العسكرية الخانقة مما أدى إلى تاخر صدور الصحافة الأدبية والثقافية والمجلات الفكرية حتى منتصف السبعينات والتي شهدت نهضة ثقافية أدبية ملحوظة فأزهرت الصحف والدوريات الأسبوعية والمجلات الشهرية والدورية المختلفة إضاقة إلى تأسيس دور نشر وطنية بسيطة على مستوى الفرد والإمكانيات.
وبالتالي نجد ظاهرة الشعر المقاوم قد اندلعت في الأراضي المحتلة بعد نكسة 1967 برموزها توفيق زياد وسميح القاسم ومحمود درويش الذين نقلوا تفاصيل القضية الفلسطينية وتجلياتها ولذلك نجد الروح الشعرية التي تقجرت في فلسطين المحتلة استلهمت قاموسها من مفردات الحياة وتفاصيل الأرض التي تحلت بروح الصمود في وجه الاحتلال الإسرائيلي مدعمة بإرادة التشبث بالوطن والتي واجهت القصيدة العربية الموطوءة بروح الانكسار بقعل الهزيمة والتي تجسدت بخطاب هجائي للذات والعالم.
بعد أوسلو بدأ الادب الفلسطيني ينتصر للبطل العادي وربما المأزوم والمهزوم والمتردد والخائف بعيدا عن البطل الأسطوري والسوبرمان فنجد شعر محمود درويش نفسه مثلا اختلف بعد أوسلوا وهذا واضح في (لماذا تركت الحصان وحيدا) و(سرير الغريبة) و(لا تعتذر عما فعلت)، فانغمست القصيدة بعد اوسلوا في الابهام والغموض.

س- أنت بصدد إصدار رواية فهل تحدثيننا عنها قليلا؟
 روايتي تمتد أحداثها من نكسة عام 1967 رجوعا إلى نكبة 1948ثم تمتد إلى بداية عهد دونالد ترامب واستلامه الحكم دون الغوص في حيثيات حكمه والتغييرات التي لحقت به.
ولكن حرصت في روايتي أن لا تكون جافة  تأريخية بل كانت في إطار قصة غرامية يتصارع فيها الحب مع الحرب لنحكم في النهاية إن كان الحب بإمكانه ان ينتصر على الحرب ومدى صلابة الأنثى الفلسطينية المرهفة الرقيقة إن لزم الأمر.
يعني الهدف من روايتي أن تنقل معاناة الشعب الفلسطيني من جهة وتمسكه بالحياة والحب من جهة أخرى فإن قرأها جميع الأجيال سيشعر بالمتعة والفائدة في نفس الوقت. فأظنها ستروق الشاب والكهل على حد سواء.

س- هل تعتبرين نفسك ذات خصوصية في كتاباتك الإبداعية؟ وكيف ترين القصيدة النسوية في ضوء تجربتك الشعرية؟
نعم في الحقيقة أعتبر أن لدي خصوصية في كتاباتي تتبع خصوصية تجربتي الحياتية التي ربما ستقودني في يوم ما إلى كتابة سيرتي الذاتية إن استطعت أن أتمتع بالحرية التي أصبو إليها.
القصيدة النسوية لا تختلف عن غيرها برأيي إلا ربما من ناحية الجرأة فقط فربما كانت أقل جرأة في الطرح بسبب طبيعة المجتمع الشرقي الذكوري الذس تعيشه المرأة الفلسطينية.

س- كيف ترين حركة النقد الفلسطيني في المرحلة الراهنة؟ ومن يعجبك من النقاد؟ وهل أنصفك النقاد؟
حقيقة لم أستحسن الحركة النقدية السائدة في الوضع الراهن فهي تتأثر بالعلاقات والاحكام المسبقة فلا تحكم على العمل الأدبي بصورة مجردة لتفيه حقه، وأجد الدكتور عمر عتيق عميق في نقده إلى حد ما وهو كتب عن ديواني إضافة إلى غيره من النقاد ولكن حتى الآن لا اعتقد أن النقد قد أنصفني، ولم يتجلى ديواني بين أيدي النقاد حتى الآن.

س- ما هي طموحاتك ومشاريعك المستقبلية؟
كل طموحاتي تتجسد في الحرية ليس الحرية من المحتل الغاصب فقط بل الانعتاق من ذواتنا المكبلة ومن قيود المجتمع التي لازالت تحاصرنا وتحد من إبداعاتنا.
مشاريعي المستقبلية حقيقة واسعة تتراوح بين الكتابة على الورق بإصدارات سترى النور قريبا وبين العمل على أرض الواقع وكلها تهدف إلى نقل معاناة الشعب الفلسطيني على الصعيد الداخلي والوطني والعالمي، وترميم الإنسان على الصعيد الفردي والجمعي.

الروائي نجيب محفوط في لقاء تاريخي عام 1970: الشكل لا يأتي نتيجة التفكير النظري المجرّد


حاوره عزالدين المناصرة ـ
وصلتُ إلى القاهرة 1964، قادماً من القدس. كنت آنذاك شاعراً شاباً قدم إلى مصر للدراسة في جامعة القاهرة. وفي (نوفمبر 1964)، بدأت أتردَّدُ على (مقهى ريش)، حيث يتمجلس عدد من الأدباء المصريين الشباب حول (نجيب محفوظ)، الذي كان في (الثالثة والخمسين) من عمره، فهو من مواليد (حي الجمالية) عام 1911. وهكذا أصبحت عضواً في مجموعة المريدين الذين يتحلقون حوله مرّةً كل أسبوع طيلة خمس سنوات متواصلة، أي حتى مغادرتي للقاهرة بتاريخ (19/2/1970). لا أتذكر أنَّ أحداً من مجموعة المريدين فكرَّ أن يلتقط صورة تذكارية له مع نجيب محفوظ، لأننا لم نفكر في يوم من الأيام أننا سوف نفقد صداقته الأسبوعية. كنا نناديه بـِ: (أستاذ نجيب)، أو (عم نجيب)، وكان بعضنا يناديه بـِ(نجيب بيه) مثل إبراهيم منصور الضاحك الأبدي، والمثقف الشفهي كثير الأسئلة. أهم ما أنجزه نجيب محفوظ (هرم الرواية العربية)، هو قراءته الدقيقة لعالم (الحارة المصرية)، والتحولات الاجتماعية والسياسية والصراع الطبقي، والتناقض في سلوك الشخوص. كما كان نجيب محفوظ منفتحاً على التحول في الأشكال الروائية الأوروبية. وكان يناقش هذه المسألة مع مريديه. كان نجيب محفوظ إنساناً لطيفاً بسيطاً ضحوكاً لا يعرف التكشير أو التعالي، يبدأ جلسته بالسؤال التقليدي عن الأخبار، فيتبرع أحد الحاضرين بالحديث عن خبر سياسي أو ثقافي، عندئذ يعلق نجيب محفوظ تعليقات سريعة، وهو ليس من ذلك النمط من المثقفين الذين لا يتركون أحداً يتكلم، بل العكس، فهو يميل إلى الاستماع، ويصبر على الثرثارين. ذات مرَّة جاء متهللاً مرتاحاً بعد أن أبدينا ملاحظات إيجابية حول قصة جديدة له نشرها في (الأهرام)، فقال مازحاً: (معنى ذلك أنكم تسمعون كلام الريّس)، وعرفنا منه أن الرئيس (جمال عبدالناصر) اتصل به وأبلغه إعجابه بالقصة. أتذكر أن أحد الحضور أبلغه أن (الرئيس الفلاني)، اتخذ قراراً بـ(قطع يد السارق)، فقهقه نجيب بيه، وعلَّق على الفور: (أمَّال الوُزرا عندنا حيمضوا ازّاي). وفي عام 1968، صدر في القاهرة ديوان شعري مشترك لثلاثة شعراء، كنت أحدهم تحت عنوان (الدم في الحدائق)، ولمَّا نسينا نحن الثلاثة أن نهدي نجيب محفوظ نسخة منه، فقد عاتبنا نجيب بيه على النحو التالي: كنا نحن الثلاثة قد دخلنا إلى مقهى ريش معاً، فقال لنا: (أهلاً وسهلاً، ماعندكوش دم!!) بصيغة استفهام استنكاري. لهذا قمنا بتوقيع النسخة فوراً. وكان نجيب محفوظ يغازل مريديه الشباب بأن يسألهم عن نتاجاتهم أو يعلق على عمل أدبي أعجبه بلغة انطباعية. وكان يقرأ للروائيين العرب، ويردد أسماء بعضهم مثل: (حنَّا مينه، غسان كنفاني، سهيل إدريس، حليم بركات) في حواراته الصحافية، مثلما ردّد أسماءهم حرفياً في حوار أجريته معه عام (1970).
كان نجيب محفوظ متواضعاً حقيقياً، ودائماً أُدلّل على بساطته بالحادثة التالية: ليس من عادتي أن أصحو مبكراً في ذلك الزمان، لكن أمراً طارئاً أجبرني على الصحو المبكر، وكانت طريقي تقودني من (شارع قصر العيني) إلى ميدان التحرير باتجاه (باب اللوق)، وكان ذلك بعد السابعة صباحاً، حين لمحت نجيب محفوظ يمشي على الرصيف المقابل، دون أن أنظر إليه. فجأة وجدت نجيب محفوظ يقطع الشارع ويتجه نحوي مباشرة، وهو يقول مازحاً: (بتتجاهلني ليه كده يا عزّ). شرحت له الأمر بجملة واحدة: لم أشأ أن أزعجك. أصر نجيب بيه على أن أتناول معه الإفطار (فول وطعمية) في أحد المطاعم الشعبية، ودفع الثمن، وغادر مستعجلاً، لأنه يكون في عمله في الساعة الثامنة تماماً. عندما أخبرت المريدين في مقهى ريش عن هذه الحادثة، أجمعوا على أن هذه الحادثة من اختراع خيالي الشخصي، وبينما نحن نتحدث، دخل نجيب بيه متهللاً، وحيَّاني تحية خاصة كأنَّ سراً مكتوماً ينبغي أن أعلن عنه، فضحك الجميع.

لم يكن نجيب محفوظ سياسياً بالمعنى الاحترافي، لكنه كان يدلي ببعض التعليقات السياسية السريعة في الجلسات الخاصة في مقهى ريش، ولم تكن آراؤه تدلُّ على احتراف. وكنت دائماً أستدرجه للكلام عن قضية فلسطين، وسألته: لماذا لم يكتب رواية واحدة في هذا الموضوع، ولم يتهرب من الإجابة، بل أجابني بوضوح: (هذا يحتاج إلى خبرة ومعرفة ومعايشة). كان مريدو (نجيب محفوظ) في مقهى ريش يكتبون القصة القصيرة والرواية والشعر والنقد، ويمارسون الترجمة. كبروا، وأصبحوا قادة الأدب بمصر والعالم العربي. أما أنا، فقد غادرت القاهرة عام (1970)، بعد إقامة فيها دامت خمس سنوات، وكفلسطيني عشت متنقلاً في العديد من المنافي، ولم أزر القاهرة إلاَّ بعد (36 عاماً)، لهذا لم أقابل عمّنا نجيب بعد ذلك، وقيل لي في التسعينات: لقد تحوَّل إلى هيكل عظمي، فلم أشأ أن أغيّر صورته التي أعرفها في شبابي الشعري: كان إنساناً رائعاً بسيطاً عميقاً، متواضعاً، ضاحكاً، منظماً تنظيماً دقيقاً، أما نتاجاته، فقد جعلته يستحق (جائزة نوبل)، حتى قبل الحصول عليها بسنوات طويلة.

- وفيما يلي النص الحرفي للحوار، الذي أجريته معه عام 1970، كما نشر في (مجلة الشباب الأردنية العدد الثالث والعشرون – شهر تموز):
مساء كل جمعة عام 1964... وأنا ألتقي نجيب محفوظ في – مقهى ريش – بالقاهرة، يتجمع حوله الأدباء الشباب، يناقشونه في أمور الأدب، وظرفنا السياسية والاقتصادية... وكما يحب نجيب، الشباب، فإن الشباب يبادلونه نفس الشعور، بعكس ذلك العداء الشديد الذي يظهرونه ليوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس وأمين يوسف غراب وثروت أباظة... إلخ... في مبنى وزارة الثقافة، حيث يعمل نجيب محفوظ، مستشاراً ثقافياً للوزارة، التقيت به... ضحك ورحب بي، وسألني في البداية عن أحد الشبان، إذا كنت قد رأيته في ذلك اليوم أم لا؟، وكأنه صديقه الحميم... هل نبدأ قلت له... قال: تفضل!

كان آخر ما كتبته "تحت المظلة"، هل من جديد؟
نجيب: آخر ما كتبته. بعد "تحت المظلة"،قطع نشرت في الأهرام. لم أفكر في جمعها، أما الرواية الجديدة، فلم أكتبها بعد، وأنا انتظر مع القراء – قالها وهو يضحك ضحكته الطويلة المجلجة الصافية -.
هل تقرأ للأدباء الشباب ما رأيك فيهم ؟
نجيب: الحقيقة أن الأدباء الشبان من الكثرة، بحيث لا نستطيع أن نتحدث عنهم في كلمة. وهم على اختلاف أشكالهم الأدبية، يشكلون أكثر من تيار وأكثر من مدرسة. ولكن يمكن تصنيفهم إلى اتجاهين:
1. بعضهم يعطي صورة جديدة لفن النظرية الاشتراكية.
2. والبعض الآخر يقدم تجارب فنية دون هوية فكرية محددة.
هل ذلك يعني أن لديهم وعياً واضحاً بالأدب التجريبي؟
نجيب: لا. هناك تجريب لأساليب أصبحت قديمة ومستهلكة في أوروبا، مثل المدرسة السريالية، وهناك تأثر بمدرسة اللارواية.
كيف تفسر إجماعهم على احترامك، وعلى مشاعر الود العميق نحول، دون أبناء جيلك ؟
نجيب: علاقتي بهم عواطف متبادلة، لأنني أعترف بمجهودهم، من حيث أصالته، ومن حيث أن غالبية نتاجهم أكثر تعبيراً عن الواقع، من الأجيال التي سبقتهم بما فيهم أنا شخصياً. وقليلاً ما يعثرون على من سعترف بهم، بسبب التعصّب أو ضيق النظر.
ماذا ترى في التجارب الأدبية الجديدة عموماً في الوطن العربي؟
نجيب: التجارب الجديدة، أوضح في الشعر والمسرح والقصة القصيرة بالذات، أما الرواية، فلم تخرج عن الخطوط العريضة في الرواية الغربية، وإن لم يمنع هذا من وجود بعض الروايات الجيدة.
هل قرأت الرواية العربية خارج مصر؟
نجيب: نعم. قرأت، سهل إدريس، والطيب الصالح، وغسان كنفاني، وحنا مينةـ وفاضل السباعي... والحقيقة أن هذا المجهود الروائي، يمثل أعلى مستويات الرواية العربية، وإن كان الشعر في الأقطار العربية أبرز من الفنون النثرية.
لماذا لم تكتب عن قضية فلسطين؟ رواية – مقالات ...إلخ.
نجيب: آثار قضية فلسطين، تجلت في كتاباتي، بالقدر الذي يمكن أن تتجلى به، لدى كاتب مقيم في القاهرة.
هل التجربة الحياتية ضرورية لكل عمل أدبي؟
نجيب: نعم – يجب أن يعيشها الكاتب معايشة واقعية.
ما هي مهمة المثقف العربي في هذه المرحلة؟
نجيب: من الممكن أن يكون له دور فعال. إذا كان مجنداً أو أمكنه التطوع مع الفدائيين الفلسطينيين أو – وهذا أضعف الإيمان – أن يشارك بوعيه وقلمه، فيما يختص بنوعية الجماهير، وبلورة قضاياها الحقيقية الحية.
تعني أن يترك الكاتب الكتابة ويذهب للجبهة؟ أم يكتب كتابة ثورية فقط.
نجيب: أن يترك الكاتب الكتابة ويذهب للجبهة... أفضل.
بالمناسبة ما رأيكم في مسرحية الفتى مهران لعبدالرحمن الشرقاوي؟
نجيب: من أفضل المسرحيات التي كتبت في أعقاب النكسة، وهي في اعتقادي المعادل النثري، لبعض قصائد نزار قباني، ولكني اعتقد أننا تجاوزنا تلك الفترة، فترة النقد الذاتي.
ما هي مظاهر ذلك؟
نجيب: استيقظنا من الضربة التي نزلت فوق رؤوسنا. ونحن نجدد قوانا عسكرياً واقتصادياً، حيث دخلنا مرحلة إيجابية، وأصبح للصمود مغزاه وآماله القريبة.
هل الأدب مجرد معادل للواقع، أم أن هناك رؤية مستقبلية تتفاعل معه؟
نجيب: الأدب معادل للواقع، ولكنه في الوقت ذاتع يتطلع للمستقبل، وهو واقف على أرض الواقع الصلبة.
الآن... ماذا عن الثورة الفلطسينية؟
نجيب: بروز العمل الفدائي بإيجابياته الضاربة، وفلسفته الإنسانية يتجاوز الواقع، ويعطي حلولاً للقضية على أرفع مستوى إنساني، ولذلك فهي قورة جديرة بالبقاء والنجاح.
ألا يمكن أن تكون كارثة حزيران، قد أنجبت أثراً في أدبائنا بنفس الحجم، الذي أثرت به الحرب العالمية الثانية، في أدباء أوروبا، بحيث تكون مسألة تبني الأشكال الأدبية الجديدة، أمراً حتمياً وطبيعياً؟
نجيب: لا شك أن حرب حزيران، قد تركت أثراً حاداً وعميقاً، في نفس كل مبدع عربي، لكننا في واقعنا الراهن، نحتاج إلى الاتصال والانغماس في إكشالات الواقع وفهمه علمياً، وموضوعياً لا يقتصر الفهم على الذاتية، ولذلك، فإني أشك بأن تلك الأشكال مواتية لظروفنا. إن الشكل الأدبي لا يأتي نتيجة التفكير النظري المجرد. فإذا ما ظهر أسلوب ما، فإن له ما يبرره. مدرسة تيار الوعي – مثلاً – كما تبلورت في الآداب الأروربية، كانت شكلاً يجسد الحالة الإنطوائية، حالة الانكسار النفسي التي وجدت أوروبا نفسها فيها أثر الحرب الأولى. كما أن هذا الشكل – غير المنضبط – يتفق مع رفض العالم الخارجي بقيمه المنهارة، إذ أصبح الإنسان في تلك الفترة، فاقد اللغة مع الآخرين، وهي حالة لا تهيئ لازدهار هذا الشكل إلا في ظروف مشابهة.
ما رأيك بالفكرة القائلة، إنك أصبحت تشكل عقبة في وجه الكتّاب الشباب؟
نجيب: لا اعتقد أن أدبياً ما من الجيل السابق، يشكل عقبة في وجه الجيل اللاحق، لسبب بسيط هو اختلاف الرؤيا، فالجيل الطالع لا يحاول أن يكتب بالطريقة التي أكتب فيها، ولكنها كتابة جديدة، وقد بدأنا نلاحظ ثمارها. الأجيال المتعاقبة تتفاوت في رؤيتها، أما أبناء الجيل الواحد، فتفاوتهم يتجلي في الدرجة.
__________________
* مجلة (الشباب الأردنية)، العدد الثالث والعشرون، عمّان، تموز، 1970.